رئيس التحرير
عصام كامل

الحب يفعل ما يشاء «قصة مصورة»

فيتو

تائه أنا في دائرة المادية المفرغة.. حياتي مشهد ثابت أظنه عصيًا على التغيير.. لا جديد في يومي كلما أنهيت شوطًا عدت لأكرره مرة أخرى.. كأني أشبه ثورًا أُغمضت عيناه دون إرادة منه وأجبر على الركض بلا هوادة ليوفر قوت يومه.. غادرت جسدي روح تحب وأبى البقاء فيه قلب يحتوي من يحب.. صرت كيانًا يفتقد لأي مشاعر.. من أنا؟.. ومن سرق صفاء أوقاتي وقتل سكينة روحي.. تراها الحياة ومطالبها التي أنهكني توفيرها.. أم هو القدر الذي حرمني حتى من الاشتياق إلى التنعم في ظلال حياة يقود ركابها الروح والقلب.. ما عدت أقوى على تحمل عذاب العيش في نيران الجسد والنفس.. أبحث عن سبيل للخلاص ولكن أنى لي به وقد صرت أسير سجن المادة؟.. أشتاق إلى السفر في رحلة شاقة علني أعثر على ذاتي؛ وأجد السبيل الذي يعيدني إلىَ.

أيها المعذب في نيران حياة الجسد والنفس.. هذا هو السبيل لمن أراد السير.. أخرج قلبك من ظلمات القيل والقال.. ازهد في شغف تتبع العيوب وتحين عثرات الأقوال والأفعال.. كن سماءً متلألئة بأنوار نجوم الحب.. روحًا مشعة بقمر هداية العشق.. بسمة يرشف من نهر سعادتها الحجر والشجر والدواب والبشر.

انج بروحك وأمسك بيدك مفتاح ذلك السجن الذي تجبرت وأنت تشيد أسواره من ماء التفرقة وطين العنصرية ولبنات الكره.. كن منصفًا وافتح للقلب والروح باب الحرية على مصراعيه.. تخلص من تلك القيود التي استعبدت بها قلبك وروحك.. اهدم حوائط السجن ثم ابحث في خلجات قلبك المحرر من أسر دونية الركض وراء الحياة المادية عن العشق.. تلك المرتبة الملائكية التي خلقت من أجلها.

العشق يا ولدي هو النبتة التي خلقنا من أجل رعايتها.. هو نهر الحياة الذي تحيا قلوبنا بالاغتسال فيه.. تطهر في هذا النهر وعد إلينا لتغرس نبتة الحب داخل كل قلب.. قل نويت تعمير صحاري الأفئدة الموحشة ببساتين من حب الإنسان لأخيه الإنسان دون تمييز على أساس لون أو جنس أو دين.. قل يا خالق الأكوان قوني بالحب.. أعطني ألف جناح وجناح لأحجب أشعة شمس «الأنا» المحرقة عن كل فؤاد وهب نفسه للعيش وسط حميمية «جماعة» الحب.

أما تذكر زمن الطفولة حين ولدت بفطرة جعلتك محبًا ومحبوبًا.. حينها توجك الحب ملكًا على عرش وطن المحبين.. كنت بالعشق تُهدي من حولك الصفاء وهناء البال والطمأنينة.. كانوا كلما وقعت أعينهم عليك ذكروا الملائكة وسارعوا لسماع حفيف أجنحتك وهى تخترق بالسكينة قلوبهم.. إبتسامتك رحمة كانت تهبط إليهم من السماء.. ورضاك كان قبولًا لدعاء ظلوا طوال الليل يتبتلون به إلى الله.

ولما قوى عودك بالحب تنصلت منه.. هجرت مدائن الروح والقلب وسكنت صحاري الجسد والنفس.. كنت بكثرة الأحبة تأنس في وطن العاشقين.. واليوم تحيا بلا وطن طريد بغض لا يرى منك غير ظل.. صغير أعزك الحب وكبير أذلك الكره.. بالحب كنت حرًا وبالكره أمسيت مسجونا.. بالحب كنت حيًا وبالكره صرت ميتًا.. قلبك المسجون والسجان أنت.. روحك القتيل والقاتل أنت.

الله حرر قلبك بالحب فأبيت إلا أن تسجنه بالكره.. كنت عزيز وطن حتى كفرت بالحب.. قتلته بيدك وجعلت من جسدك مدينة موتى لا حياة فيها لبشر.. كنت منتشيًا وأنت تطرد من سماء روحك حمائم السلام.. ولما أذاقك حب النفس مُر تجرع كؤوس الضيق عدت تصرخ: ألا أيها الحب تعال.

دعك من الصراخ فلا جدوى منه.. وانظر إلى هذا الدرويش الهائم في الملكوت.. تأمل ملامحه جيدًا.. هل تستطيع سماع دقات قلبه.. مثلك كانت نفسه تدعوه لمخالطة البشر.. تقول له بين الحين والآخر: ألم يحن وقت العودة إلى الدنيا.. ما الجدوى في ترك ملذاتها والزهد في نعيمها.. أما لك حق فيها.. أوشك أن يستجيب لندائها ولكن روحه حملته سريعًا وعادت به إلى عالم الحب.. أنقذته من هذه الهواجس وغاصت به في حلقة الذكر.

للمحبين لغة أخرى غير تلك اللغات التي يتحدثها البشر.. لغة لا يجيد فهمها إلا من أحب بصدق.. والدراويش في حلقة الذكر لا يتحدثون إلا بهذه اللغة.. يهيمون سكارى من كثرة شرب كؤوس العشق.. يتمايلون ويتمايلون حتى يتوحد كل عاشق مع من يحب.. يذوبون في المطلق.. يشعرون أن وجودهم حقيقة.. يرتفعون من عالم الأشباح والصور إلى مدارج أخرى.. يظفرون فيها بالعشق المصفى من أي أغراض دنيوية.. يدركون معنى العشق الإلهي.

الدراويش يدركون أن العشق الإلهي جنة المحبين لذلك تعلو أصواتهم في كل أرض بترانيم الحب.. وحين يتذوقون قطرة من لذة العيش بلا أكدار.. تعلو أصواتهم أكثر وأكثر.. فتُمنح أجسادهم القوة وتنتشي قلوبهم بالسعادة وتحيا أرواحهم في نعيم أبدي.. في هذه اللحظات يشعرون أن حياتهم أبدية.. أن ذكرهم حتى بعد الموت خالد بالحب.

ألا يوجد سبيل غير أن أترك حياتي وأهيم في الدنيا درويشًا لا يشغلني شيء.. لا.. نحن لم نطلب منك أن تصبح درويشًا.. حين نحدثك عن حياة الدراويش لا ندعوك أن تكون مثلهم.. فهذا عالم له قوانينه الخاصة؛ وقليل من يرضى بالإذعان لها.. ولكننا ندعوك أن تُحيي نبتة الحب بداخلك.. أن تستكين مثل هذا الشيخ المطمئن في سجوده للخالق.. أن تجعل من فيوضات روحك ماء عذبًا ومن رحاب قلبك تربة صالحة لإنبات الحب.. حينها ستتخلص من قيود الجسد وتمسي بصحبة الروح كما الريح المنعش في حر الصيف.. يحيى بمرورك المنتظر دوما كل قلب.. حينها ستدرك أن الحب يفعل ما يشاء.
الجريدة الرسمية