رئيس التحرير
عصام كامل

«أكتوبر»..العبور الذي لا يحتاج لأكاذيب


الذين وضعوا رواية «الحمامة والعنكبوت» على غار «ثور» أثناء هجرة النبي الكريم لم يكن يقصدون سوى وضع الكثير من المعجزات على تلك الرحلة المباركة، من حسن الحظ أن الرواية تم نفيها في معظم كتب السير النبوية حتى أدرك الجميع أنها لم تحدث.


تلك النية على افتراض حسنها هي في الحقيقة مفسدة لأهم دروس الهجرة النبوية وهي التحضير جيدًا وعدم التواكل، فالنبي الذي كان قادرا على أن يهاجر علانية لم يفعلها، اختار أبو بكر المعروف بالهدوء ولم يختر عمر الذي هاجر علنًا وقبلها قد هدد أهالي قريش، تلك الرحلة والتكتيك النبوي الشريف كانت أهم الدروس لنا، كأن النبي أراد أن يؤكد لنا عمليًا فكرة الأخذ بالأسباب.

هؤلاء أيضًا هم الذين وضعوا رواية أن «الصديق» قد لدغه ثعبان داخل الغار وهي رواية تم نفيها عند كثيرين، ونعود ونسأل هل يحتاج أبو بكر بطولة حتى تكون رواية لدغ الثعبان هي التي تضيف له، أم إنه «التاتش العربي» أو تحميل الأحداث بكرامات وهمية لا أساس لها، وفي الحقيقة لا تنتقص من عظمة الأشياء مثقال ذرة.

العجيب أن التليفزيون المصري تجاهل ذلك كله وأصر وألح وكرر ونسخ مشهد الحمامة والعنكبوت في جميع الأفلام التي تناولت هجرة النبي.

بتلك القاعدة يحاول البعض أن يغلف ملحمة العبور ببعض الكرامات التي في الحقيقة تنتقص منها وتظهرنا بمظهر الجيش الذي لم يستعد جيدًا للحرب، ولم يكن لديه أي شيء لمواجهة العدو، أو في بعض الأحداث الأخرى يظهرنا أننا حاربنا جيش مهتريء ضعيف وهو في حقيقة الأمر إهانة لنا، فإذا كان الجيش الإسرائيلي بمثل هذا الضعف فكيف احتل أرضنا وكيف ارتضينا توقيع معاهدة سلام معهم.

بكل المقاييس العسكرية فإن ما قام به «الشاذلي» ورفاقه، وعبور القناة كان إنجازًا عسكريًا مصريًا، نفذه جنود صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسبقه تخطيط جيد وتنسيق مشترك وروح قتالية عالية.

بكل الحسابات المعنوية كان العبور هو إعادة الثقة للمصريين وأنهم جيش يستطيع العبور وتوجيه ضربات موجعة للعدو، وأن تحرير الأرض أمر ليس بعيد المنال.

بكل الحسابات السياسية مثّل يوم الغفران لدى الشعب الإسرائيلي كابوس لا يريدون له التكرار بعد أن جربوا صفارات الإنذار وهي تدوي في تل أبيب واختبئوا في الملاجئ.

ما سبق لا يمكن الانتقاص منه ولا يمكن نكرانه، ورغم مشروعية الأسئلة حول هل أكتوبر انتصار أم عبور؟، لكن في النهاية هناك سيمفونية عسكرية عزفها الجنود المصريون.

أول الكرامات الوهمية التي رددها أكثر من خبير عسكري خلال اليومين الماضيين هي أن الجيش المصري حارب بأسلحة بدائية جدًا، بعضهم أكد أن الحرب تمت من خلال مخلفات الحرب العالمية الثانية.

ما سبق ينسف جهود ست سنوات من تطوير الأسلحة والتدريب عليه ومفاوضات صفقات الأسلحة، ناهيك أنه يظهر الجيش المصري بأنه قد دخل معركة وليس معه على الأقل أسلحة تستطيع ردع العدو وفي هذا استهانة بحياة الجنود وجريمة كانت القيادت المصرية أبعد ما يكون عنها.

من ناحية أخرى تلك الأكاذيب تخالف كل ما كتب عن حقيقة الأسلحة التي تم استخدامها ولعل على رأسها صواريخ «سام» التي استطاعت أن تفقد العدو الكثير من طائراته وكانت وقتها ضمن أحدث أنظمة الدفاع الجوي !

كرامة أخرى يحاول البعض إضفاءها على حرب أكتوبر من خلال سرد الانتصارات فقط، العدو بال على نفسه، الأسرى كانوا يسلمون أنفسهم، تلك بالمناسبة حقيقة ولكن لماذا تم إغفال الوجه الآخر وعدم ذكره «مش معقولة يكون اللى احتل أرضنا 6 سنين واستنزاف وصفقات وأسلحة يكونوا بالخيابة ديه»، ولماذا لا يتم ذكر أن سوريا لم تحرر الجولان، وأن هناك لواء مدرع تم تدميره في عملية تطوير الهجوم بعد 14 أكتوبر، وأن الثغرة كبدتنا خسائر كثيرة !

ما سبق لا يجرحنا في شيء، لا ينتقص من كرامتنا بل يضيف إليها، في الأحياء الشعبية يقولون «أنا لو ضربتك متشكرش فيك»، دلالة أن ضرب الضعيف أمر لا يستحق الإشادة، وهو ما لم يحدث في عبور 73، كان العدو قويًا، أوقع خسائر في الجيش المصري، لديه قادة يتقنوا فن الحرب، بكل إمكانياتهم ودعمهم الدولي استطعنا أن نفاجئهم، بكل إمكانيات الاستخبارات أوجعناهم !

في خطاب السادات الشهير الذي يقول فيه «لقد عبرنا في 6 ساعات» كانت جولدا مائير ترد عليه «جنودنا مازالوا في القناة» .

معرفة ما دار في الحرب يزيد من عظمتها، ويعطينا درسا، كيف يمكن تلافيه مؤخرًا، ولعل أهم الدروس أن يتم ترك الحرب للقادة العسكريين بعيدًا عن القرارات السياسية التي كانت السبب الأساسي في الثغرة.

عبرنا ونحن صائمون، كرامة أخرى وهمية يحاول البعض إضفاءها، صحيح لا يوجد إحصائية عن الجنود الصائمين أو الفاطرين ولكن لقاءات جميع القادة تؤكد أنهم تلقوا أوامر بالإفطار، السؤال هل ينقص ذلك من قدرهم شيئًا، يعيب فيهم وفي بطولاتهم التي سجلوها، بالطبع لا ينقصهم شيء.

الحقيقة ومعرفة ما حدث دون إضفاء كرامات وهمية أكبر احترام لملحمة شارك فيها المصريون في أوقات عصيبة، أخذوا بالأسباب فكان النصر حليفهم، النصر لا يحتاج إلى تلك الأكاذيب.
الجريدة الرسمية