رئيس التحرير
عصام كامل

الحساب (إنجليزي).. والجغرافيا (مصري)


مقولة كنت أسمعها كثيرًا على مدى فترات حياتي وكنا نأخذها على اعتبار السخرية والضحك ولا نعبأ لمضمون هذه العبارة ذات المغزى العميق المفسر لسوء أحوالنا الاقتصادية والمعيشية اليوم، إلى أن عشت بنفسي موقفًا طريفًا مررت به منذ أيام قلائل.. حين دعاني وزملائي في العمل لتناول الغداء أحد الإنجليز المقيمين بمصر.. الذي جمعني به سابق معرفة في إطار العمل، وبعد تناول الغداء في أحد المطاعم الشهيرة.. وتقديم الشكر على الدعوة الكريمة، فوجئت بأن الداعي (الإنجليزي) قد قام بدفع حسابه الخاص بما تناوله من طعام فقط.. وترك باقي الحساب ندفعه كل على حسب ما تناوله وما استهلكه من طعام.


ورغم الغيظ الذي امتلكني في حينها.. فلم يخل الموقف من خفة ظل ارتسمت بطبائع المصريين في التعامل مع مثل هذه المواقف المفاجئة، مما ذكرني وجسد أمامي هذه المقولة التي أبرزت أسباب خيبتنا في إدارة شئون حياتنا اليومية ومواردنا الجغرافية.

الموقف رغم معالجته كوميديًا بخفة الظل المصرية، لكنه كان بمثابة درس عملي يوضح مدى سوء ما تعودنا عليه في معيشتنا اليومية من استخفاف قد يبدو عاديًا في ظاهره في التعامل مع مواردنا.. بالرغم من ترديدنا كلمة (الترشيد) وإدراكنا لما سيؤول إليه الأمر جراء هذا الاستسهال والاستخفاف بإدارة مواردنا التي وهبنا الله إياها.. غير عابئين بدعوات ترشيد الاستهلاك، ظنًا منا أن هذا نوع من البخل المذموم أو التضييق في العيش المقسوم.

آفتنا التي لا نلقي لها بالا هي الاستهلاك الزائد عن الحاجة رغم ضعف دخولنا ومواردنا، دون أن يكون لهذا الاستهلاك مردود إيجابي على المستهلك ذاته.. فيسعى إلى زيادة الإنتاج ومضاعفة العمل ليعوض ما تم استهلاكه ويحقق فائضًا يكون بمثابة مخزون استراتيجي يكفي لسد الاحتياجات وقت الأزمات.

لقد شاع الأمر بين كل المستويات والطبقات الاجتماعية حتى وصلنا لحد خطير من السوء في إدارة مواردنا.. رغم جغرافيتنا الغنية بالخيرات والثروات.. ووصل الأمر إلى أن كثيرًا منا يستهلك ما يزيد على حاجته الفعلية لزوم الأبهة والمنظرة.

بل لربما وجدنا من يستهلك ما لا يمتلك قيمته فعليًا.. فأصبح السحب على المكشوف وعلى النوتة، ولجأ كثير منا للقروض وأنظمة التقسيط، وأصبحت هناك حالة من الكساد الرهيب نتيجة ترحيل المشكلات إلى المستقبل دون وعي بأهمية إدارة الموارد الذاتية والتخلي عن سياسة (أبوبلاش كتر منه) كدعوة للإسراف والتبذير إذا ما كان الأمر لا يكلفنا مالًا بشكل مباشر.

لقد أصبحنا متغافلين وغافلين عن النتائج السلبية التي تعود علينا بسبب سوء الترشيد في الاستهلاك، والتي تمثلت في تدني الدخول وانخفاض مستوى المعيشة لقطاع كبير من الشعب.. وانسحب بشدة على فئات من معدومي الدخل تعيش بيننا لم تعد تجد ما يكفي احتياجاتها الأساسية.. وقد وصل الأمر ببعض منهم إلى التجول بين صناديق القمامة ليلًا بحثًا عن بقايا طعام قد تسد جوعه وجوع أبنائه الذين لا يملكون من قوت يومهم ما يشبع احتياجاتهم نتيجة اتباعنا هذه السياسة الخاطئة وأصبحنا ندور في فلك دائرة مغلقة تُستنزف فيها مواردنا بلا ترشيد ولا إنتاج.. مما أدى إلى سوء توزيع الثروات.

فهل (نتخلى) عن سوء إدارتنا لمواردنا (الجغرافية).. و(نتحلى) بحسن (حساب) وترشيد استهلاكنا؟!
الجريدة الرسمية