رئيس التحرير
عصام كامل

هل لا تزال قوانين الدولة العثمانية تحكمنا؟!


عندما يُعرف السبب يبطل العجب. ما حكاية الخط الهمايوني؟

«الخط الهمايوني».. هو قانون عثماني وضعه السُّلطان عبد المجيد الأول في شهر فبراير من عام 1856، وكان الغرض منه، تنظيم بناء دور العبادة في جميع الولايات التَّابعة للدولة العثمانيَّة، هذا القانون يُطبق على كل الملل والأديان غير الإسلامية.


في شهر فبراير من العام 1856، وبعد أن ساعدت إنجلترا وفرنسا السُّلطان عبد المجيد سلطان الدَّولة العثمانيَّة في حربه على روسيا، قرَّر إجراء مجموعة إصلاحات سُميت الخط الهمايوني، وكان أهم ما جاء بالفرمان العثماني آنذاك، التَّالي:

- المساواة بين كل مواطني الدَّولة العثمانيَّة في كل الحقوق وكل الواجبات.
- انتخاب (رؤساء) للكنائس من كل الملل وتكون فترة انتخابهم حتى مماتهم ولا يحق لأحد نزع سلطة البابا من كنيسته إلا بعد إبلاغ (وليس أخذ الموافقة) الباب العالي باسم البابا الجديد في كل مرة.
- السلطان شخصيًا وفقط من له الحق في ترخيص بناء أو ترميم الكنائس والمقابر الخاصَّة بغير المسلمين.
- إعفاء الكنائس من الضرائب أو المصروفات.
- تشكيل مجلس مكوَّن من رجال الكنيسة "كهنة أو رهبان" ورجال من خارج الكنيسة "مسيحيين غير رهبان أو كهنة" لإدارة شئون الملة والمعروف اليوم باسم المجلس الملي العام كالمجلس الملي القبطي الأرثوذكسي والمجلس الملي الكاثوليكي، والمجلس الملي الإنجيلي.
- عدم إجبار أي شخص على ترك دينه.
- محو كل الألفاظ الَّتي تمس فئة من النَّاس مثل الِّدين أو المِلة.
- يكون حق التَّعيين في مناصب الدَّولة المدنيَّة والعسكريَّة للكفاءة بدون تمييز في الِّدين.
- إلزام كل مواطني الدَّولة بالخدمة العسكرية.
- تكون الدَّعاوى القضائية بين المسيحين والمسلمين في دواوين (محاكم) خاصة يرأسها قضاةٌ من الطرفين.

هذا القانون كان مُميزًا للغاية، وكان مُصلحًا لأبعد حد، ففي ظل الدَّولة العثمانية كان المصريون المسيحيون "الأقباط" يعانون قسوة قوانين جاحفة، بينما لم يكن المسيحي الأجنبي يعاني مثلهم وبالطبع لم يكن المصري المسلم يعاني أيضًا من تلك القوانين الظالمة.. فما القصة؟

تعالوا معًا لنعود إلى العام 1535 للميلاد، حين بدأ نظام الامتيازات الأجنبية، الَّذي منح الأجانب الَّذين يعيشون في الولايات العثمانيَّة ومنها مصر، الحق في محاكمتهم ضمن محاكم خاصة أو أمام قناصلهم وليس أمام المحاكم المصرية.

وكان آنذاك كما أسلفنا حال المسيحين الأجانب أفضل بكثير من حال المسيحين المصريين، فقد وضع الحكام العثمانيون أحكامًا ضد المصريين غير المسلمين، مثل حرمانهم من ركوب الخيل وإجبارهم على السَّير في يسار الطريق، والصَّوم في رمضان، ومنعهم من وضع عمائم على الرأس أو ارتداء ثياب ملونة بغير اللون الأسود.

إلى جانب أنَّهم فرضوا على المسيحيين المصريين "الأقباط" أحكامًا لا يزال تأثيرها مستمرًا حتى اليوم، ومنها: على غير المسلم تسمية أولاده بأسماء معينة، يُعرف منها دينهم، كذلك إجبار المسيحي على ارتداء صليب حديد كبير في الرَّقبة، ولما صار الصَّليب يترك أثرًا أزرق اللون في رقبة القبطي، بدءوا يطلقون على المسيحين المصريين "الأقباط" "عظمة زرقاء".

لكن في العام 1718، تمكَّن الأنبا بطرس السَّادس "بابا الإسكندرية" بطريرك الأقباط الأورثوذكس من إقناع السُّلطان العثماني باتِّباع قانون خاص بالأحوال الشَّخصية لغير المسلمين.

ثم في فترة حكم محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة من الفترة 1805 إلى 1849 تم إلغاء كل تلك الأحكام العثمانية الجائرة ضد المسيحيين المصريين "الأقباط" لا بل وسُمح لهم ببناء كنائس جديدة، وكذلك أعطيوا الحق بحمل السِّلاح والانخراط في جيش مصر، وليس هذا فحسب بل وتم تعينهم باكوات في الجيش ومديرين لمناصب عليا كان أعلى منصب فيها هو "المُباشر" والَّذي يوازي منصب وزير الماليَّة اليوم.

ثم في فترة حكم سعيد باشا من 1854 إلى 1863 أضاف الأخير إلى قرارات جده قوانين جديدة لصالح المصريين المسيحيين "الأقباط" فألغى الجزية في ديسمبر من العام 1855 والَّتي كان قد فرضها عمرو بن العاص عام 640 للميلاد.

كل ما سبق وذُكر كان أمرًا قديمًا ومضى، لذلك نعتبر الخط الهمايوني قانونًا مُصلحًا، ففيه نال المصريون المسيحيون "الأقباط" حقوقًا جديدة، لكن مع الأسف لا تزال في هذا القانون موادًا يُناقض تطبيقها دستور جمهورية مصر العربية، لذا من حقنا أن نطرح السُّؤال التَّالي: هل لا تزال قوانين الدَّولة العثمانية تحكمنا؟

تعالوا لننظر إلى دستورنا نظرة ثاقبة ونرى التَّغيير الحادث في مصر الحديثة.

في 26 فبراير من العام 2013، أصدرت محكمة القضاء الإداري في الدَّعوى رقم 7635 للسنة 60 قضائية حكمًا يخص سلطة إصدار تراخيص هدم الكنائس القائمة وإعادة بنائها، هذا الحكم ألغى قرارًا جمهوريًا بتفويض المحافظين على إصدار تراخيص هدم الكنائس القائمة وإعادة بنائها، استنادًا إلى:

أنّ الأمر لم يكن من صلاحيات رئيس الجمهورية بالأساس كي يفوَّض المحافظين فيها، فصلاحيات رئيس الجمهورية في هذا السِّياق كانت مقتصرة فقط، على منح تراخيص بالنَّشاط الدِّيني الَّذي يستلزمه بناء كنائس جديدة وممارسة الشعائر الدِّينية فيها.

أما تلك الكنائس القائمة بالفعل والَّتي سبق وصدرت لها تراخيص، فيخضع ترميمُها أو هدمُها أو إعادةُ بنائِها إلى تراخيص تصدر من الإدارة المحليَّة شأنها شأن سائر المباني.

ثم ما يلبث الحكم أن يُكرر أحكامًا من القضاء الإداري الَّتي تفيد أنَّ إجراءات الخط الهمايوني لا تزال سارية ونافذة حتى اليوم.

وكما سبق وذكرنا أنَّ في تطبيق الخط الهمايوني واستمرار رئيس الدَّولة في منح التَّراخيص لغير المسلمين ما هو مناقض للدساتير الَّتي تعاقبت على جمهورية مصر العربية، بما فيها الدُّستور الحالي.

وليس هذا فحسب، بل إنَّ الإجراءات التي تتخذها وزارة الدَّاخلية مع المسيحين المصريين "الأقباط" ليست غير دستورية فقط، ولكنَّها تتعارض أيضًا مع أدنى قوانين حقوق الإنسان، لماذا؟

لأنَّ المادة 46 من الدُّستور والمقابلة للمادة 12 من الإعلان الدُّستوري تنص على أن: تكتب المادة رقم 64 في دستور 2014. ونصُها التَّالي: "تكفل الدَّولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشَّعائر الدِّينية".

كما تنص المادة 40 من الدُّستور والمقابلة للمادة 7 من الإعلان الدُّستوري على أنَّ: "المواطنين لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو الُّلغة أو الدِّين أو العقيدة ".

وهذان النَّصان يؤكدان المساواة بين المواطنين المصريين مسلمين كانوا أم مسيحيين، في التَّمتع بحرية العقيدة وحرية ممارسة الشَّعائر الدِّينية، وبالتَّالي يضمنان حريِّة إقامة دور العبادة الَّتي يمارس فيها المواطنون شعائرهم الدِّينية.

وأنَّ ما تضمنه الخط الهمايوني وقرار وزارة الدَّاخلية من فرض ضوابط وقيود على حق المواطنين غير المسلمين في إقامة دور عبادة مخصصة لممارسة شعائرهم الدِّينية، وقِصر هذه الضوابط والقيود على المواطنين المصريين المسيحيين دون المسلمين، ينطوي على مخالفة صريحة لما تنص عليه وتستوجبه المادة 40 من المساواة بين المواطنين في الحقوق وعدم التَّمييز بينهم بسبب الدِّين، فالتَّمييز بين المواطنين يعني إعطاءهم الحق دون غيرهم، وهذا محظور في نص القانون.

كذلك، المشرع لم يخوِّل للدستور تنظيم ممارسة حرية الاعتقاد الدِّيني أو وضع كيفية أو طريقة لممارسة الشعائر الدِّينية. وذلك لأنَّ المشرع الدُّستوري قصد بذلك أن يكفل إعطاء المواطن المصري حرِّيةً مطلقةً في اعتقاده الدِّيني وفي ممارسة شعائر الدِّين الَّذي يعتنقة.

ومن دراسة الدُّستور يمكننا أن نرى بأنَّ مواده قد عددت الحقوق التي يتمتع بها المواطنون وميزت بين نوعين من الحقوق:

أولًا: أخضعت ممارسة بعضٍ منها للقانون وفوَّضت المشرع بذلك.
من الحقوق التي أسند الدُّستور للمشرع تنظيمها بقانون، حرية الصَّحافة والطِّباعة والنَّشر ووسائل الإعلام وحرية الرَّأي المنصوص عليها في المادتين 27، 48 من الدُّستور.

وأيضًا حق الهجرة المنصوص عليه في المادة 52، كذلك حق الاجتماع العام وتسيير المواكب، الوارد ذكرهما في المادتين55، 56، وحق الانتخاب والتَّرشيح الوارد ذكرهما في المادة 62.

إذًا، كل تلك المواد الآنفة الذِّكر، تُقرن تقرير الحقوق بعبارة "في حدود القانون" أو عبارة "وفقًا للقانون" أو عبارة "وينظم القانون هذا الحق". 

ثانيًا: أطلقت حرِّية ممارسة حقوق أخرى بشكل مطلق.
أما حرِّية العقيدة وحرية ممارسة الشَّعائر الدِّينية فهي من الحقوق المُطلقة الَّتي لا يجوز إخضاع ممارستها التنظيم التشريعي، وهذا ما جاء ليؤكده نص الدُّستور في المادة 46 "تكفل الدَّولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشَّعائر الدَّينية".. وهذا نص واضح ليس فيه أي قيد أو شرط لممارسة تلك الحقوق وخالٍ من أيِّ إشارة إلى تنظيم هذه الحرية بقانون.

كذلك المشرِّع الدُّستوري يؤكد على حرية الاعتقاد الدِّيني المطلقة والواردة في دستور 1923، حيث كانت المادة 12 من هذا الدُّستور تنص على أنَّ: حرية الاعتقاد مطلقة.

ومن جهه أخرى، فإنَّ حكم المادة 40 من الدُّستور لن يستقيم لو تم إخضاع إقامة دور العبادة الخاصة بالمواطنين المسلمين لذات القانون، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه الأمر من تفرقة وتمييز بين المواطنين على أساس الدِّين، لأنَّه يهدر مبدأً دستوريًا آخر نصت عليه المادة الثَّامنة من الدُّستور والَّتي تقول: "تكفل الدَّولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين".

إذًا، التَّصريح فقط للمبنى وليس للعبادة، والعبادة مصرحٌ لها بالدُّستور، لكن يوجد قيد وحيد وارد في هذا الأمر وهو أن لا تؤثر هذه الممارسة على السَّلامة العامة أو النِّظام العام أو الصِّحة العامة.

ولأنَّ الإطار الدُّستوري الحقوقي يضمن حقوقًا متساوية لكل المواطنين في الدُّولة.. وجب على السُّلطة في الدُّولة أن لا تمثل أهل الدِّين السَّائد.. ووجب عليها أيضًا، أن تكفل الحقوق الدِّينية للأفراد والجماعات دونما تقييد أو شرط.

كذلك وجب على الدَّولة أن تضمن تحقيق المساواة في إتاحة وممارسة الشَّعائر الدِّينية والتَّعبير الدِّيني لأي مجموعة دينية؛ لأنَّ القاعدة القانونية، قاعدة عامة ومجردة وتخاطب سلوك الأفراد في المجتمع، وعلى الدَّولة احترام القانون، وإلا لا بأس من أن نعود القهقرى ونضع أعناقنا تحت نير قوانين الدَّولة العثمانية! 
الجريدة الرسمية