رئيس التحرير
عصام كامل

«فريدة» تكشف كوميديا الوطن السوداء


لم يكن ما حدث مع الطفلة فريدة رأفت التي انهارت وهي تخرج من برنامج (ذا كوميدي) وسط قسوة وجهل لجنة التحكيم، سوى نموذج صارخ لمأساة هذه البرامج التي يطلقون عليها "كوميديا"، بينما هي في الحقيقة قمة التراجيديا المأساوية التي تدفع بأطفال في سن صغير جدًا لكي يبدأوا حياتهم بأحلام التفاهة التمثيلية والغناء والرقص بدلاً من أن يبدأوها بتعلم المهارات التي يمكن أن تمنحهم مستقبلاً أفضل لهم، ولوطنهم الذي يعاني من التخلف والتراجع للوراء مئات السنين.


ولا تقتصر المأساة على ذلك فحسب، ولكنها تتضمن لجان التحكيم التي لا تعرف غير التخصص الترفيهي دون أدنى خلفية نفسية أو اجتماعية عن ضرورة التكافؤ السني بين طفلة لا يتجاوز عمرها السبع سنوات، وليس لديها أي خبرة في التعامل مع المواقف، وشاب على مشارف الثلاثينات أو تجاوزها، قال بالحرف إنه سبق وعمل "جارسون" وبالتالي فإن تصرفه في الموقف التمثيلي الذي يواجهه سوف يكون بالتأكيد أكثر حكمة ووعيًا.

ورغم ذلك أزعم أن تصرف الطفلة التي أخذت الموبايل من الزبون حتى يعود بالأموال كان أكثر دهاءً وحكمة ويدفعها للفوز بعيدًا عن تصرف الشاب الفج، والذي وضع حذاءه على منضدة المطعم ليقوم الزبون بتلميعها وهو تصرف أبعد ما يكون عن الكوميديا، ويتسم بالغلظة، لكنه أعجب حسن حسني وهنيدي الذي رأى الطفلة تنهار أمامه من البكاء، ورغم ذلك وبقسوة مفرطة أعطى صوته للشاب الغليظ!

نحن إذن أمام مأساة برامجية، وربما يمكن اعتبارها كوميديا سوداء، حيث تنبع ضحكات لجنة التحكيم من بكاء الممثلين ومن مجتمع صار لا يهتم سوى بتكريس ثقافة التفاهة والعري والاستخفاف في كل برامجه تقريبًا، وكأنه يعتقد بذلك أنه يواجه برامج أخرى سياسية فجة أشاعت أيضًا التفاهة، وغيرت الحقائق، وركزت على حشو عقول الناس بكل ما هو مزيف بأسلوب شديد الغلظة يعتمد على الشتائم والصراخ بأسلوب تمثيلي متدنٍ، ليكتمل الانحدار الإعلامي بمسلسلات العشوائيات المشبعة بالسوقية والانهيار الأخلاقي، والتي يروج لبعضها مثل كل عام من الآن لتعرض في شهر رمضان.

الصورة كما تبدو فعلاً قاتمة، ولا تدعو للضحك بل تجعلنا نبكي ما تبقى من حياتنا على المستوى الثقافي الذي صار عليه إعلامنا، عامدًا متعمدًا، والذي أصبح لا يراعي حرمات بيوت أو نفوس أطفال صاروا يحلمون مثل باقي شبابنا بالمكسب السريع والرقص والغناء وسط هوجة برامج التغييب الاجتماعي، ومنح قيمة للتافهين وغير المجتهدين، وتكريس قيم الفهلوة وخفة الدم على حساب قيم أخرى نحتاجها لبناء مجتمعنا الذي ينهار أمام أعيننا، في حين أننا حريصون على خطف جزء من الجثة على طريقة المثل: (إن خرب بيت أبوك.. إلحق خدلك قالب).

لقد إعتمدت السياسة المصرية على مدى أكثر من ربع قرن على استنزاف عقول الشباب والمراهقين بكرة القدم التي صارت مع الوقت أفيون الشعوب العربية، وبعد قيام ثورة صار البديل لتشويه الوعي هو تقديم هذه البرامج التي تجسد التفاهة والعري لتكتسح اليوتيوب بعد ذلك ومواقع التواصل الاجتماعي، لإلهاء الناس عن قضاياهم الحقيقية، فلم تكتفِ بالبرامج السياسية الموجهة والصارخة والمزيفة، وإنما دفعت لبرامج التوك شو من هذه النوعية فرأينا محمد سعد ينقل الإسفاف السينمائي للتليفزيون وسط تصفيق الحاضرين، ورأينا أحمد آدم يتلوى على وقع ضحكات مبتذلة ومواقف مرتبكة وتوجهات سافرة، ودخلت برامج المسرح الهابط الذي كنا قد استرحنا منه منذ نهاية الثمانينيات، فعاد بقوة مدعومًا بميديا لا تبحث إلا عن المكسب السريع والضحكات البلهاء، وممثلين يتسولون الضحكات بكل وسائل الإفيهات الغليظة والسخف المدجج بمواقف عشوائية مبتذلة، حتى انتهى بنا المطاف بالدفع بفلذات أكبادنا لهذا المنحدر، لتتحول الكوميديا في حياتنا إلى سوداء، لنقضي على ما تبقى من أمل في القادم من هذه الأجيال.
الجريدة الرسمية