رئيس التحرير
عصام كامل

إنهم يقتلون المرضى !


لا أكاد أتصفح جريدة أو أتنقل بين القنوات الفضائية إلا وترددت على مسامعي تلك العبارة "مسلسل إهمال الأطباء" وكثيرًا أدقق في القراءة أو المشاهدة والاستماع ربما أجد طرحًا موضوعيًا أستطيع من خلاله فهم الهدف من العرض والنقاش وأتساءل هل المقال أو البرنامج يهدف إلى محاولة التثقيف والتوعية وهى أحد أهم أهداف الإعلام ورسالته الأساسية أم أن الغرض هو محاولة إيجاد الوسائل الكفيلة بتقليل تلك الظاهرة المفترضة ؟


لكني حقيقة وفى كل مرة أجد أن الغرض لا يرمى إلا إلى اللعب على وتر مشاعر المواطنين بطرح كوارث اجتماعية وإنسانية ومهاجمة الأطباء بالتحديد ناسبين إليهم تهمة الإهمال بل القتل أحيانًا.

وكما أدعي دائمًا أن مشكلة مصر الأساسية هي مشكلة ثقافية تسبب فيها فساد التعليم والإعلام على مدى عشرات السنين مما أدى إلى إنتاج خمسة أو ستة أجيال تربت على التلقين والثقة المفرطة فيما تسمع أو تقرأ من معلومات خاصة إذا كانت المصادر إعلامية في عصر تحول فيه مقدمو البرامج إلى خبراء في كل مناحي الحياة وأصبح اختيار الضيوف والمتحدثين ومنحهم الوقت والفرصة في التوضيح يخضع في أحيان كثيرة لآراء نجوم الإعلام وميولهم وتذكرت مقولة أنيس منصور "إن كنت تصدق كل ما تقرأ....لا تقرأ!".

القضية خطيرة لأنها تتسبب فعلا في قتل الآلاف وربما الملايين في الحاضر والمستقبل، فالتوعية السلبية غير الموضوعية واتهامات الأطباء بالقتل تؤدي كل يوم إلى انصراف غالبية الأطباء عن التدخلات الحاسمة في الحالات الحرجة؛ لأن كل تلك التدخلات تحوى الكثير من مخاطر مزاولة مهنة الطب ومنها النسب المعروفة علميًا وعالميًا من المضاعفات أو احتمالات الوفاة وهو مالم يعد مقبولا في مصر، مما يتسبب فعلا في وفاة الكثير من المرضى كان يمكن إنقاذ معظمهم..

لكن الخوف كان سببًا رئيسيًا في عدم نيلهم لفرصتهم في العلاج الحقيقى، فكم طبيب يضع حياته ومستفبله ومستقبل أسرته على المحك لينقذ إنسانًا لا يقدر أو يقبل تلك المخاطرة.

المشكلة الأخرى بعيدة المدى والتي تتسبب في تدمير كامل للخدمة الطبية هو النزوح الجماعى لشباب الأطباء عزوفًا عن التخصصات الحرجة والدقيقة ذات المخاطر العالية نظرًا للضغوط الشديدة مع انعدام المقابل المادى المناسب ويكفى هنا أن أرصد تجربة شخصية في تخصص ينهار في مصر حاليًا وهو جراحة القلب للأطفال..

ففى القسم الذي أعمل به لم نستقبل خلال 6 سنوات أي عضو هيئة تدريس يرغب في التدريب والعمل في هذا التخصص الدقيق والذي يتطلب جهدًا فائقًا وتضحية بسنوات طويلة في التخصص والتدريب وذلك نظرًا لعدم وجود أي مقابل مادى مع ظهور موجة رفض للنتائج واتهامات للأطباء دون أدنى مقارنة بالنتائج في الدول المشابهة أو دراسة الأسباب الحقيقية والموضوعية وراءها.

وأستطيع أن أشخص مشكلتنا الثقافية في عدة أمور:
1-عدم الرضا في بعض الأحيان عن نتيجة العلاج لأسباب عاطفية كانت أو موضوعية حتى وإن كانت المضاعفات تحدث بنسبة معروفة وتم ذكرها قبل بدء العلاج.

2-عدم الاهتمام بالمشكلة العامة وهي تدهور المنظومة الصحية كمًا وكيفًا وحصر الموضوع في المشكلة الشخصية

3-الاقتناع بأن الطبيب هو المسئول عن كل شيء وعدم البحث عن الأسباب الحقيقية إن وجدت عن أي مشكلة طبية والتي قد تبدأ بأخطاء للمريض نفسه في حجب بعض المعلومات (كالتدخين أو تعاطي المخدرات أو موانع للحمل أو التاريخ المرضى وعدم انتظام العلاج والمتابعة وعدم الالتزام بتعليمات الطبيب...إلخ ) أو الأهل والأصدقاء (زيارات حاملى الأمراض للمستشفيات والتغذية غير المسموح بها...إلخ) أو أي من أفراد الفريق الطبي (تمريض وعمال وفنيين وإداريين...إلخ) أو نقص أو عيوب في الأجهزة أو المنشآت أو المستلزمات.

4-عدم الاهتمام الحقيقى بمشكلة التعليم الطبي والتدريب في مصر ليس للأطباء فقط بل لكل أعضاء الفريق الطبى.

5-عدم التفرقة بين الخطأ البشرى ونسبة حدوثه وبين الإهمال وهو الإفراط أو التفريط أثناء الممارسة الطبية والإفراط هو العمل خارج التخصص أو فوق المسموح لمستوى التخصص أو حتى فوق الطاقة المحتملة من العمل أما التفريط فهو التقصير في عمل المطلوب كمًا أو كيفًا أو توقيتًا.

6-الفساد التشريعي في معاملة الأطباء في الأخطاء البشرية المعروفة بقانون العقوبات واتهامهم بالقتل.

7-اهتمام الإعلام بالجزء المثير وهو المعاناة الإنسانية وفكرة الاتهام والتشهير دون الجزء الإصلاحي أو المنتج وهو التوعية وبحث الأسباب الموضوعية ووضع نظام عادل للفصل في مخاطر مزاولة مهنة الطب بما يضمن حق المريض والطبيب ويحافظ على استمرار الخدمة الصحية وتطويرها.

كثير من الناس ينسى أن الأطباء أنفسهم يعانون عندما يمرضون من نفس مشكلات المنظومة الطبية المتردية بل إن غالبيتهم يعانى لعلاج أي من أفراد أسرته إذا أصابه المرض، فالمشكلة عامة ومجتمعية وتصيب الجميع حتى المسئولين والأغنياء الذين يظنون أنهم قادرون على الهروب من جحيم الخدمات العامة إلى تلقي العلاج بالخارج لكنهم لا يفكرون فيما يمكن أن يتعرضوا له في حال الطوارئ أو الحوادث ومن يضمن لهم قدرتهم على انتظار إجراءات النقل والسفر لأيام أو حتى لساعات طويلة.

وحتى لا نتهم غيرنا بالحديث عن المشكلات دون طرح الحلول ثم نسير على دربه أقول إننا في مصر مغرمون بإعادة اختراع كل عجلة دارت في الدول المتقدمة منذ عشرات السنين...

الحل البسيط والسريع والأقل تكلفة هو نقل أحد النظم الناجحة في أسرع وقت ممكن وكلها مبنية على قواعد معروفة:

1-تعليم طبى جيد لكل أفراد الفريق الطبى (اكساب معرفة ومهارة- ضمان المستوى الآمن للخريج- توحيد أنظمة التدريب والتخصص- التعليم الطبي المستمر والتجديد الدوري للترخيص).

2- خدمة صحية جيدة وتأمين صحي اجتماعي شامل يوفر موارد تغطي تكلفة الخدمة ويغطي كل المواطنين.

3- تشريع يفرق بين أسباب المضاعفات ويفرق في البشرية منها بين الخطأ والإهمال ويفرض تأمينًا ضد مخاطر مزاولة المهنة على كل أعضاء الفريق الطبي يدفع تعويضات لمتضرري مخاطر مزاولة المهنة.

4- تعليم وإعلام يهدف إلى تثقيف وتنوير وليس إلى إثارة واستغلال آلام البشر حتى لو أدى إلى تدمير المجتمع.

مصر تحتاج إلى تضافر جهود كل أبنائها وإيجاد حلول علمية اقتصادية لمشاكلنا المزمنة، ولن يكون ذلك بنشر العداء والكراهية بين فئات المجتمع.
الجريدة الرسمية