رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون على المعاش!


تبدأ المعاناة الفعلية في حياة موظف الحكومة حال اقترابه من الخروج للمعاش؛ فهو مُضطر لإنهاء الكثير من الإجراءات، وهى الإجراءات في بلدنا إيه غير جَرى وشحتفة ومحايلة على اللى يسوى واللى ميسواش من موظفين تنابلة وموظفات شمطاوات، كل مهامهم في الحياة تعطيل مصالح العباد والبلاد، وتكفير الناس في عيشتهم، وزرع الكراهية في قلوبهم تجاه كل مكتب أو ورقة أو ختم أو كوسة بتتقوَّر في المكاتب وقت العمل من جانب بعضهن، أو بلوڤرات وچواكت بيبيعها بعضهم بالقسط لزمايله كنوع من أنواع ضرب البطالة داخل المصلحة، وطز في المواطنين مادام مش هيشتروا!


المهم أن سيدنا موظف الحكومة سيكون عليه أن يترجى إمضا من هنا، ويبوس له تلات أربع رجلين علشان ختم من هناك، فيذوق عذابًا كان يصنعه للآخرين طوال مدة خدمته التي لن تقل عن تلاتين سنة بالمستريح، ولكن تفتكر هايندم؟ وحتى لو ندم، يفيد بإيه الندم، ويعمل إيه العتاب؟ ما خلاص هو مضطر يطلع الدور السادس على رجله علشان يلاقى الأستاذ (بهجت) مزوَّغ، فينزل تانى للبدروم علشان يجيب ورقة من الأرشيف فيلاقيهم مشغولين علشان لقيوا هناك تعبان وبيحاولوا يقتلوه، وبالتالى شغل الأرشيف واقف بقاله ييجى ست شهور، وقدامه سنتين سنتين ونُص على ما يبدأ العمل فيه تانى لحد ما يادوب يعرفوا يلاقوا (رفاعى) يطلَّع لهم التعبان، وينشغل موظفو الأرشيف في تلك الظروف العصيبة باحتساء الشاى والقهوة، ولعب الدومينو، وعقد المُقارنات المُمتدة والمُتشعبة واللذيذة والمُتحمِّسة بين (صوفينار) و(ليلى كوشنير) و(صوفيا) و(أليسار)!

بعدها يكون على حضرة الموظف اللى طالع معاش إنه يتلطَّم على مكاتب المُحامين وفى أروقة المحاكم ليُتابع قضية بدل الإجازات التي يُطالب بالمُقابل المادى الخاص بها، وهى قضية أصبحت موضة عند موظفى القطاع العام من ييجى 15 سنة، الموظف من دول يقول أنه لم يستنفد رصيد إجازاته، وأنه ـ بالتأكيد ـ كان مثالا حَيا للموظف الكُفء الحريص على دفع عجلة الإنتاج، وعدم تعطيل دولاب العمل، وبالتالى فلم يحصل على إجازاته القانونية في وقتها، ولأنه حريص على أموال الدولة ومُستقبل شعبها فهو يُطالب ببدل نقدى لهذه الإجازات بسعر النهاردة، لكنه ولله الحمد بيطلبها بالجنيه المصرى مش بالدولار اللى ملهلب ومولَّع نار، وهذا في حد ذاته نوع من الإيثار الكريم والتضحية العظيمة لا يُمكن إنكارهما!

ولو بحثت خلف حضرته ستجد إن التلاتين سنة خدمة اللى اشتغلهم كان فيهم ييجى 29 سنة ونُص إجازات غير رسمية، ما بين تزويغ بدرى، وبين حد يمضى بداله، وبين قُعاد على المكتب لتناول الإفطار والشاى وقراءة الصحُف، أو الحديث والنميمة عن الزملاء أو المديرين، أو اللعب في الهاتف المحمول حسب أوان العصر يعنى زمان كان فيه ناس بتؤلف نغمات، وناس بتلعب سناك، حاليًا فيه فيس بوك وتويتر وواتس آب، واللى مش عاجبه مُمكن يلعب كاندى كراش!

المُهم إنه ييجى يقول لك مأخدتش إجازات، والحقيقة إنك لو بحثت عن سبب امتناع الموظفين عن الحصول على رصيد إجازاتهم ستعرف أن السبب هو رغبتهم في الهروب من جحيم البيت ووجع الدماغ والقرف هناك إلى نعيم العمل، ففى المصلحة بيقعد حضرة الموظف (هارون الرشيد) زمانه، واكل شارب نايم متسلى ببلاش، وأى حد يكلمه يقول له "فوت علينا بُكرة" أو "ورقك ناقص" أو "عاوزين طابع دمغة من أم سبعة جنيه خمسة وأربعين قرش واتنين مليم ويكون لونها أخضر باهت وعليها رسمة لـ(أحمد مظهر) من فيلم الناصر صلاح الدين" أو "هات لى إمضا من آخر الطرقة" ولعلمك في كُل المصالح الحكومية لازم الإمضا تيجى من آخر الطرقة، ولازم تروح آخر الطُرقة ع الفاضى، بس هي غالبًا هتكون فُرصة ليك علشان تفُك زنقة هناك!

أما المرحلة التالية في الاستقرار على المعاش فعلًا فهى مرحلة العذاب الحقيقى، والتي سيتذوَّق فيها الموظف (السابق) كُل صنوف الألم والندم والعذاب؛ فلن يعرف طعم الراحة أبدًا، إذ أنه صار مطلوبًا من حضرته ـ بصفته صايع على المعاش ـ اصطحاب أحفاده لمدارسهم، ومن ثم العودة بهم لمنزله أو لمنازلهم حسب أماكن سكن أسرته، ولازم يشترى البامبرز واللبن بالنهار، واللبوس علشان السخونية بالليل، والسخونية ـ لعمرى ـ لا تُصيب الأطفال أبدًا إلا ليلًا؛ حيث يندر وجود الأطباء الفاهمين أو الصيدليات اللى فاتحة، وبالتالى فسيكون الجهد مُضاعفًا في البحث والتنقيب والجرى في أنصاص الليالى خصوصًا ليالى الشتاء المُمطرة الباردة العاصفة، كأننا بنصوَّر فيلم إنى راحلة!

وسيكون على سيادة الموظف المُتقاعد أن يترحَّم مليون مرَّة على أيام الوظيفة والراحة والطرمخة، لما كان بيصحى بمزاجه، يروح الشغل بمزاجه، يقعُد يحُط رجل على رجل بمزاج مزاجه، ينام وبرضو حاطط رجل على رجل محدش له عنده حاجة ما دام وضع توقيعه الكريم في دفتر الحضور، يدردش مع الزملاء والزميلات في السياسة والاقتصاد وطبق اليوم وثروة (عصام الحضرى) وحجاب (عبير صبرى)، يصلى الظُهر في أربع ساعات لو مكانش وراه مُناقشة سياسية عقيمة مع الزملاء أو مشوار للبلد يخطفه (في وقت العمل) علشان يجيب إيراد قيراطين الأرض أو يحل نزاعًا بين بنت عمه وجوزها، الآن ـ في الأيام الصعبة الطاحنة بعد المعاش ـ أصبح يجمع صلاة الظهر مع صلاة العصر قبل المغرب بدقائق من كُتر الانشغال والإرهاق!

وعلى رأى المثل فسيكون على الموظف بعد خروجه للمعاش أن يُعيد ما أكله بط بط على صورة وز وز، ومش بس كده، ده بالملوخية والمحاشى والفخدة الضانى كمان، وسيعيش يا عينى حزينًا مكلومًا مقهورًا مكسور الوجدان على أيام العِز والراحة والهناء وهدوء البال لما مكانش شايل للدُنيا هَم ولو حَد في البيت كلِّمه ـ أيام العز ـ يقول له بفكَّر في مسألة في الشُغل، ولو حَب يزوَّغ من البيت في أي مشوار أو مصلحة فالحجة معروفة، طالع مأمورية، أو مسافر في شغل، أو عنده جرد وهايسهر في المكتب يا عينى طول الليل وكل دة علشان العيال والمعايش الصعبة!

بعد المعاش مفيش الكلام ده ولا الحِجج دى، وسيتحوَّل ملك زمانه إلى سجين أشغال شاقة مؤبدة غلبان ميعرفش من حقوق الإنسان إلا تناول الطعام على عَجَل ـ لو لحق ـ علشان يلحق يودى العيال الدروس، وتقشير البدنجان للمدام على ما هي تقدح الزيت، والجرى ورا السبَّاك بالساعات علشان يجيبه يشوف حَل في شرخ ماسورة صرف الحمام اللى غرَّقت سقف حمام الجيران، دون أن يحق له الجلوس على المقهى، أو الحديث في التليفون، أو حتى الحصول على قسط آدمي من النوم بعد ما كان بينام في مكتبه بالمصلحة الحكومية حاطط رجل على رجل زمان إن كُنت حضرتك لسَّة فاكر اللقطة دى!
الجريدة الرسمية