رئيس التحرير
عصام كامل

«عربيد» يصطدم بـ «الذين هبطوا من السماء»

فيتو
18 حجم الخط

عائدًا كنتُ من جنازةٍ في مدينة «فايد»، إحدي قلاع «الإسماعيلية»، صادف عودتي قائد سيارة الجنازة الذي جاء معنا من القاهرة، استفزنا طيلة طريق الذهاب إلى هناك بهدوئه ونظراته التي بدت للوهلة الأولى متعجرفة، وتعمده إظهار البطء القاتل في الاستجابة، ناهيك عن نظره لنا شزرا طيلة الوقت، دعك من هذا، ركبت مع صاحب السبعين خريفا، وما أن تحركت السيارة طلب أن يجلس على مقهى، نظرت إليه غضبًا وسرعان ما تذكرت أنها سيارته فوافقت، انتهى الرجل من «الشيشة» وانتهي صبري معه، وبدأت الرحلة وبشرتنا السماء بوعورة الرحلة فالأمطار لم تتوقف إلى أن صلنا القاهرة.


أبيتُ أو شئت فأنا الآن مضطرٌ لأن أتحمل كل ماسيخرج من جعبة الرجل، قرابة الساعة والنصف، رفعت زجاج السيارة وقررت أن أغط في نومي، وهنا وقعت المفاجأة، نظر الرجل إليَّ وقال: «هل تعرف "ألفريد أدلر" و"فرويد"».. عقدت المفاجأة تعابير وجهي، وأجبته بأنهما علماء نفس والأول اهتم بشرح نظريات الثاني المتناقضة..... لم أكمل وقاطعني قائلا عندي استعداد أن أحللك تحليلا نفسيا بنسبة 55 بالمائة وإن صرحت بما في داخلك سأصل معك لـ 85، بدأ الرجل يسأل وما كان مني إلا أن أجيب بدهشة، لم يلبث 5 دقائق وشرح لي شرحا وافيًا ربما لا أستطيع أن أشرحه عن نفسي، دفعني الفضول أكثر وأكثر بعد أن وجدت الرجل يتحدث عن الثورة الفرنسية والثورة البلشيفية وفلاديمير لينين وجوزيف ستالين وأفكار كارل ماركس.

تشعب السائق العجوز وبدأ يتعمق ووجدت نفسي غير قادر على مجاراته في الثقافة، فقولت له لن أسمع شيئًا آخر إلا بعد أن تخبرني كيف عرفت هذا؟!، من أين لك هذا؟، نظر إلى الطريق واعتلته ثقة استحقها عن جدارة، وبدأ يحكي باستفاضة «تربيت في أسرة غنية، كنا من أغني أبناء حدائق القبة، لكنها أموال مخدرات، كان أبي من أكبر تجار المخدرات في الستينات وما بعدها، كنت واحدًا من ثلاثة عشر أخًا، لم أفكر في شئٍ لا تعليم ولا غيره، اكتفيت بأربع سنوات في المدرسة، أو كما يقولون بفك الخط.

في عام 1961 كنت أحملُ خمسة عشر عامًا، وقعت عيناي على عنوان لأنيس منصور «الذين هبطوا من السماء» - الكلام ما زال للرجل العجوز- دفعني الفضول وجنّ جنون عقلي، كيف هبطوا من السماء؟!، كيف لعربيد مشرد مثلي أن يقتنع أن هناك أناسا هبطوا من السماء، ومن هم إذن؟!!، ومن هنا بدأت قراءة ما ينشره أنيس منصور في أخبار اليوم، بدأت أشعر أن عقلي بدأ يتطور وبدأت أتميز عن باقي المشردين من أصدقائي، سمعت أن هناك كتبًا ترجمت للغة العربية فبحثت واشتريت وعكفت على القراءة، وازدادت مداركي، فقرأت في المسرح والأدب، وبحثت عن قصص وروايات تحمل طابع التحليل النفسي، وقرأت لفرويد وألفريد أدلر وكارل يونج.

لم يمنحنا الطريق متسعًا من الوقت، وانتهي الحوار سريعا بيني وبين الرجل، وما أن وصلنا إلى القاهرة، وقد تعلمت درسًا لا يُنسي في الإرادة والتحدي، استأذنته أن أكتب هذا المقال، واشترط أن أصفه بالعربيد، صافحته على استحياء، وانصرفت أحدث نفسي عن فشل كثير من المتعلمين في تحصيل قسطٍ واحدٍ مما وصل إليه هذا الأمي الذي لم يمنح الفرصة كاملة للدراسة في مدارسنا العقيمة وكلياتنا الفاشلة.
الجريدة الرسمية