رئيس التحرير
عصام كامل

توفيق الحكيم.. الساخر الحق

فيتو

توفيق الحكيم هو رائد الرواية العربية والكتابة المسرحية في العصر الحديث؛ وأحد العلامات البارزة في حياتنا الأدبية والفكرية والثقافية في العالم العربي، امتد تأثيره لأجيال كثيرة متعاقبة من الأدباء والمبدعين، ولد توفيق إسماعيل الحكيم بضاحية الرمل بمدينة الإسكندرية عام (1316هـ 1898م) لأب ريفى وأم من أصل تركى كانت ابنة لأحد الضباط الأتراك المتقاعدين، وترجع جذوره وأسرته إلى قرية «الدلنجات» بالقرب من «إيتاى البارود» بمحافظة البحيرة، وقد ورث أبوه عن أمه 300 فدان من أجود أراضى البحيرة، في حين كان إخوته من أبيه يعيشون حياة بسيطة ويكدون من أجل كسب قوتهم بمشقة واجتهاد.


عاش توفيق الحكيم في جو مترف، حيث حرصت أمه على أن يأخذ الطابع الأرستقراطي، وقد سعت منذ اللحظة الأولى إلى أن تكون حياة بيتها مصطبغة باللون التركي، وساعدها على ذلك زوجها.

انتقل الحكيم ليعيش مع أعمامه في القاهرة والتحق بمدرسة محمد على الثانوية، وفى تلك الفترة اشتعلت شرارة الثورة الشعبية المصرية سنة (1337 هـ 1919م)، فشارك الحكيم وأعمامه مع جموع المصريين في تلك الثورة، فقبض عليهم واعتقلوا بالقلعة بتهمة التآمر على الحكم، وعندما علم أبوه بالخبر أسرع إلى القاهرة وسعى بأمواله وعلاقاته أن يفرج عن ابنه وإخوته، ولكن السلطات العسكرية لم تتساهل ومانعت بشدة الإفراج عن أي من المعتقلين، إلا أنه استطاع بعد جهد كبير أن ينقلهم من معسكر الاعتقال بالقلعة إلى المستشفى العسكري.

بعد أن هدأت الأحداث بدأت السلطات العسكرية تفرج عن المعتقلين، وكان الحكيم وأعمامه من أول من أُفرج عنهم، فخرج من المعتقل، وقد تركت الحادثة أثرا قويا في نفسه بالنقمة على المستعمرين، وشعورا دافقا بالوطنية والوعى التحرري.

عاد الحكيم في سنة (1338 هـ=1920م) إلى دراسته، حيث نال إجازة الكفاءة ثم إجازة البكالوريا سنة (1339هـ=1921م) وبرغم ميله إلى دراسة الفنون والآداب فإنه التحق بمدرسة الحقوق نزولا على رغبة أبيه، وتخرج فيها سنة (1343 هـ=1925م).

مزج توفيق الحكيم بين الرمزية والواقعية في كتاباته على نحو فريد يتميز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض. وأصبح هذا الاتجاه هو الذي يكون مسرحياته بذلك المزاج الخاص والأسلوب المتميز الذي عرف به.

يتميز الرمز في أدب توفيق الحكيم بالوضوح وعدم المبالغة في الإغلاق أو الإغراق في الغموض؛ ففى أسطورة إيزيس التي استوحاها من كتاب الموتى فإن أشلاء أوزوريس الحية في الأسطورة هي مصر المتقطعة الأوصال التي تنتظر من يوحدها ويجمع أبناءها على هدف واحد، و(عودة الروح) هي الشرارة التي أوقدتها الثورة المصرية، وهو في هذه القصة يعمد إلى دمج تاريخ حياته في الطفولة والصبا بتاريخ مصر، فيجمع بين الواقعية والرمزية معا على نحو جديد.

تتجلى مقدرة الحكيم الفنية في قدرته الفائقة على الإبداع وابتكار الشخصيات وتوظيف الأسطورة والتاريخ على نحو يتميز بالبراعة والإتقان، ويكشف عن مهارة تمرس وحسن اختيار للقالب الفنى الذي يصب فيه إبداعه، سواء في القصة أو المسرحية، بالإضافة إلى تنوع مستويات الحوار لديه بما يناسب كل شخصية من شخصياته، ويتفق مع مستواها الفكرى والاجتماعي؛ وهو ما يشهد بتمكنه ووعيه.

يمتاز أسلوب توفيق الحكيم بالدقة والتكثيف الشديد وحشد المعانى والدلالات والقدرة الفائقة على التصوير؛ فهو يصف في جمل قليلة ما قد لا يبلغه غيره في صفحات طوال، سواء كان ذلك في رواياته أو مسرحياته.
ويعتنى الحكيم عناية فائقة بدقة تصوير المشاهد، وحيوية تجسيد الحركة، ووصف الجوانب الشعورية والانفعالات النفسية بعمق وإيحاء شديدين.

كان قلم الحكيم كالكرباج، يؤلم في أي اتجاه أراد، لا يفرق في ذلك بين قريب وبعيد، ومن بين عباراته المأثورة:
-»انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم لقد أخذ هذا اللاعب في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون»
قالها الحكيم عندما قرأ إن بعض لاعبى كرة القدم دون العشرين يقبضون آلاف الجنيهات.

-«إلى التي عاونتنى وساعدتنى في إخراج هذا الكتاب وإنتاجه، لما دبرته لى من جو الهدوء التام بابتعادها عن البيت».

كتبها الأديب المصرى الساخر لزوجته في مقدمة كتابه «سجن العمر» والذي أهداه لها، حيث اعترف ذات مرة بفضل زوجته قائلا «زوجتى تفهمنى جيدًا، وتساعدنى في عملي، فأسافر ولا تعترض، وأقفل الحجرة عليّ عشر ساعات، أقرأ، وأكتب، فلا تسأل كيف ولماذا ولا تتأفف!!». وقد تحدث الحكيم عن مدى سعادته في عشرة زوجته الطيبة، خاصة أنها تحملته كثيرًا ولم تضق به ذرعًا أو تحد من حريته، وروى حكايات طريفة عن زوجته، قائلًا أنه كان يُحثها على مغادرة المنزل وقت انشغاله بالكتابة، فيقترح عليها زيارة أهلها «مش تروحى تشوفى أهلك»، وتتفهم سريعًا هذا الأمر، فتذهب بالفعل لزيارة أهلها وتتركه يعمل في هدوء.

-«إن حب التفكير نقمة.. آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر» ساخرا من حال الأدباء والمفكرين وعدم تقدير الناس لهم.

وكان الحكيم يقول: «ليس للنساء عمل في الحياة سوى الحب، أما حياة الرجل فهى حب العمل، ومن هنا بدأ سوء التفاهم»، كما أن «الجمال هو العذر الوحيد الذي يغفر للمرأة كلّ تفاهتها وحماقتها».
ومن عباراته الناقدة «المصلحة الشخصية هي دائما الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ»، و«لا يوجد إنسان ضعيف، ولكن يوجد إنسان يجهل في نفسه موطن القوة».

عاصر الحكيم الحربين العالميتين 1914 - 1939. وعاصر عمالقة الأدب في هذه الفترة مثل طه حسين والعقاد وأحمد أمين وسلامة موسى. وعمالقة الشعر مثل أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، وعمالقة الموسيقى مثل سيد درويش وزكريا أحمد والقصبجى، وعمالقة المسرح المصرى مثل جورج أبيض ويوسف وهبى والريحاني.

كما عاصر فترة انحطاط الثقافة المصرية (حسب رأيه) في الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو 1939 - 1952. هذه المرحلة التي وصفها في مقال له بصحيفة اخبار اليوم بالعصر « الشكوكي»، وذلك نسبة لمحمود شكوكو.

انزل جمال عبد الناصر الحكيم منزلة الأب الروحى لثورة 23 يوليو، بسبب «عودة الروح» التي أصدرها عام 1933، ومهّد بها لظهور البطل المنتظر الذي سيحيى الأمة من رقادها. ومنحه عبد الناصر عام 1958 قلادة الجمهورية، ولم يذكر أن عبد الناصر منع أي عمل لتوفيق الحكيم، حتى عندما أصدر «السلطان الحائر بين السيف والقانون» في عام 1959،و»بنك القلق» عام 1966، حيث انتقد النظام الناصرى ودافع عن الديمقراطية.

ووصل الأمر أن عبد الناصر كان يستقبل الحكيم في أي وقت وبغير تحديد لموعد. وهو ما أكده الحكيم نفسه في جريدة الأهرام في 15 مارس 1965.

بعد وفاة عبدالناصر عام 1970 وأثناء تأبين الزعيم سقط توفيق الحكيم مغمى عليه وهو يحاول تأبينه وبعد أن أفاق قال خطبة طويلة من ضمنها:
«اعذرنى يا جمال. القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتى الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك» إلا أن الحكيم في عام 1972 أصدر كتاب «عودة الوعي» مهاجما فيه جمال عبدالناصر بعنف وأعلن في كتابه أنه أخطأ بمسيرته خلف الثورة بدون وعى قائلا:
«العجيب أن شخصا مثلى محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لى أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا فيه الثورة مجرد أجهزة استقبال ويضيف كيف استطاع شخص مثلى أن يرى ذلك ويسمعه وأن لا يتأثر كثيرا بما رأى وسمع ويظل على شعوره الطيب نحو عبد الناصر. أهو فقدان الوعي. أ‎هي حالة غريبة من التخدير.»

توفى توفيق الحكيم في (29 من ذى الحجة 1407 هـ=27 من يوليو 1987م) عن عمر بلغ تسعين عاما، وترك تراثا أدبيا رفيعا وثروة هائلة من الكتب والمسرحيات التي بلغت نحو 100 مسرحية و62 كتابا.
الجريدة الرسمية