رئيس التحرير
عصام كامل

ناجي الناجي يكتب: «أسماؤنا»

ناجي الناجي
ناجي الناجي

ربط الفلسطيني خلال بضع وستين عامًا شئونه الخاصة بظروفه العامة، سيما السياسية والتحولات الاجتماعية المرافقة لمنحنيات السياسة صعودًا وهبوطًا، وأوثق علاقة تفاصيل حياته اليومية كالمأكل والمشرب والزي والموسيقى بظروفه الإقليمية وأعدها نوعًا من المقاومة الناعمة، وضمان ديمومة البقاء، ربما تلبية لغريزة الصمود على الأرض، تلك الغريزة التي تتجذّر أكثر وأكثر كلما بعدت الأرض عن التحرير والامتلاك، والإنسان عن البناء وتقرير المصير.


ومن ملامح ذلك الربط والارتباط الأسماء التي منحها الفلسطينيون لأبنائهم، تلك الأسماء التي ترصد تباين مراحل الأمل والطموح والوهم والسراب، فتجد معدّل الأسماء الثورية في مواليد السبعينات والثمانينات ليست كمثيلتها لمواليد التسعينات التي غلبت عليها أسماء القيادات السياسية والعسكرية والشهداء منهم، أو كمواليد التسعينات والألفية الجديدة والتي غلب عليها التنسيب للمدائن الفلسطينية.

وقد يكون الاسم الأكثر شيوعًا بين الفلسطينيين هو "ياسر"، تيمّنًا بالشهيد ياسر عرفات، وكذلك صلاح وخليل نسبة إلى "صلاح خلف" و"خليل الوزير"، و"جورج" نسبة إلى "جورج حبش" بغض النظر عن ديانة المسمّى، أو"غسان" إلى كنفاني، وأما مع امتداد نفوذ حركات الإسلام السياسي في فلسطين فبدأت أسماء جديدة في الانتشار، كحذيفة وقتيبة ومعاذ، وليس "جهاد"أو "نضال" أو "كفاح" مثلًا والتي راجت خلال السبعينات والثمانينات وانحسرت كثيرًا في الأعوام الأخيرة.

ونجد قطاعًا واسعًا من مواليد الستينات والسبعينات سميّ جمال نسبة إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي شكل خلال مرحلة تاريخية أملًا في توحيد العمل العربي المشترك وصولًا إلى تحرير فلسطين، واستنادًا إلى خطابه الثوري الذي لم يخلُ من فلسطين.

وكان الفلسطيني قد بنى آمالًا على شعارات سريعًا ما تلاشت كبيوت الرمال على الشواطىء، فكان كل من يخوض معركته الشخصية يرفع اسم فلسطين اختباءً وراء صفة القدسية المتلازمة مع اسمها، وبناء عليه سمّى الفلسطيني صدّام في بداية التسعينات، وسمّى كارلوس، وصدّق أقطابًا في أحزاب شمولية وقومية وإسلامية ويسارية ونسخ أسماءهم.

واتساقًا مع يوتوبيا الثورة المنشودة، اقترنت أسماء فلسطينيين بثوار ومفكرين من أقاصي الأرض، لتجد فلسطيني اسمه تشي وآخر جيفارا وثالث كاسترو، وماو ولينين وماركس وستالين، وصولًا لفتيات سمّين هافانا وهانوي.

وروى لي صديق جزائري يعمل في إحدى المنظمات الدولية لرعاية اللاجئين أنه وأثناء زيارته لمخيم برج البراجنة في لبنان في مطلع التسعينات، وجد فتاة لا تتعد العشرة سنوات غاية في الحُسن والجمال، وعندما سألها عن اسمها، نظرت إليه بعينيها الخضراوين كنهر عذب وقالت ببراءة محضة: ميليشيا، اسمي ميليشيا.

فلسطيني آخر استشاط غيظًا من خلط الأوروبين في السبعينات بين المقاومة والإرهاب فحاول إيجاد صيغةً أقوى من "صمود" التي استخدمها الفلسطينيون كثيرًا في أسمائهم، بعد تفكير عميق واستنادًا إلى قصيدة نزار قباني "أنا مع الإرهاب" ونكايةً في المجتمع الدولي، أسمى إبنته "إرهاب"، لتصبح فيما بعد ضيفة دائمة على نقاط التفتيش ومراكز التحقيق وغرف المخابرات ونقاط الترحيل، كان هذا في التسعينات حيث كانت في العشرينات من عمرها، أما الآن ومع تفشيّ وتشظي ظاهرة الإرهاب في السنوات العشر الأخيرات فربما تكون نزيلة في جوانتنامو أو أبوغريب.

وأما الأسماء التي لم يهتز مردودها باهتزاز العصور فهي أسماء المدن والأماكن في فلسطين، لتجد أسماء فلسطين ويافا وبيسان وكرمل وحيفا وجنين وميرون وغيرها من مدائن فلسطين هي الأبقى، بالرغم مما يتعرض لها حاملها من مضايقات في المطارات وعلى الحدود، أو من بعض العواصم الشقيقة التي تضيق ذرعًا بتلك الأسماء خاصةً إن كانت مما تأوي لاجئين وتعتبرأن تشبثهم بأسماء مدائنهم يتعارض مع كرم الإستضافة !!

ستندثر جلّ أسماء الشخوص وسيرهم، وستبقى الأرض وحدها، وما نحمله من اشتقاقات أسمائها.
الجريدة الرسمية