رئيس التحرير
عصام كامل

«كاف».. قصة قصيرة ليمنى دسوقي

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

(1)
“كاف” يخشى الليل، لأنه يهزمه دائمًا.

يُعرض عليه شريطا أسود لما مر به من ليالٍ حالكة السواد، وعقبات قسمت ظهره الواهن، ولكنه أيضا يعتبره ملاذه الوحيد بعد الموسيقى، يهرب إليه كلما أثقل الهم قلبه.


“كاف” يكره الشكوى، يمقت كل من يشكو إليه غير ذاته، لذلك فهو ضعيفٌ ومنكسر، كلما اشتد عليه الأمر تيقن أن الحل الأمثل أن يختفي عن عيون الناس.

(2)
الساعة الآن الرابعة فجرا، وكاف في ذروة بؤسه، يحاول أن يستجمع قواه كالعادة ليلملم شتات نفسه ويأمرها بأن تستمر.. ولكنه يفشل هذه المرة، لأنه لم يعد يقوى على تحمل المزيد، تجول بعينيه في سقف غرفته بتفاصيلها المميتة، بسوداوية أركانها.

أخذ يناجي نفسه قائلًا:

-ما الذي يجب عليّ فعله؟
=لا شيء، لم يعد هناك حل لبؤسك السرمدي.
-ولكنني متعب ولن أستطيع أن أخدم روحي أكثر من ذلك.
=إذن، اقضِ عليها حتى ينتهي كل هذا العناء.
-سأبحث عن أحد أشكو له لعله قادرٌ على مساعدتي.
=اصمت، إنهم غير قادرين على مساعدتك، يجب أن تمضِ وحيدًا، يجب أن تموت.
فكر قليلًا وظل صامتًا لبرهة ثم قال: نعم على فعل ما فشلت في فعله مسبقًا.

خرج “كاف” من غرفته واتجه إلى شرفة شرنقته الحزينة، وأخذ ينفث سيجارته لينفذ ما فكر به، استمر في قتل الكثير من سجائره حتى توقف فجأة ليقول: أنا أقتل السجائر وهي تحييني، وأنا لا أريد أن أحيا، أطفأها في عجالة، أخذ دواء يجهل فيما يستخدم ثم شرع يبتلع أقراصه في شراهة، ومع آخر قرص أحس بدوار.. هناك سم يسري في جنباته.. وسقط مغشيا عليه.

(3)
لن تستطيع أن تعيش بمفردك في صخب الحياة. يجب أن يساندك أحد كي يخبرك مدى الروعة التي أنت عليها، لذلك يجب أن تبحث عن هذا الشخص حتى وإن كان مختلفا عنك في أمور عدة.. الأهم أن يقاسمك الأفراح والأطراح، يحنو عليك، يهون عليك رجّات الحياة العنيفة، ليخبرك أن الصدمة الوحيدة هي صدمة الميلاد، وما دون ذلك فيمكن تجاوزه. حتى الليالي التي وقفت فيها في وجه الموت، وقابلته بصدر رحب.

(4)
انبثقت خيوط ذهبية من جوف السماء لتعلن استيلاء الشمس على كوكب الأرض صباحا، كانت أضواء الشمس هذه تحاصر عينيّ “كاف” لتجبره على فتح جفونه. جفونه التي باتت مغلقة لفترة ليست بالقصيرة.

ما أن رأت عيناه الشمس حتى أصيب برجفة سرت في أطرافه، أهو حقا ما زال على قيد الحياة؟ هل فشلت محاولاته في الهروب مجددًا؟ هرول مسرعًا في داخل حجرته وأخذ يسأل نفسه: ما السبب في فشل محاولاتي في مغادرة هذه الحياة البائسة؟ ما الذي يخبأه لي العالم؟

دائمًا ما أشعر أن هناك حدثًا في حياة كل إنسان حتى يدرك كينونته.. ولكنني أريد أن أعثر على مبرر، واحد فقط، حتى أستمر في رؤية القبح والمرض والظلم والموت.

(5)
لقد عارض “كاف” قوى الطبيعة اليوم، وخرج في بداية ظهور أشعة الشمس.. ولكنه اكتشف شيئًا غير اعتيادي!

لقد استمتع عندما رأى ما تكونه الطبيعة من سيمفونية نادرة.. كيف حُرم من لذة السير ببطء عند بداية بزوغ قرص الشمس وغناء العصافير في شغف؟ كيف لم يلاحظ مسبقا أن حبيبات الندى تكسو أسطح أوراق النباتات لترسم لوحة فنيةبالغة الروعة، وتحيطها طيور تغني من كل حدب وصوب؟ لقد توقف لحظة صمت ليستمع إلى الموسيقى التي هربت من روحه لتتحرر أخيرا وتذوق طعم الحرية. لحظتها أطلق العنان لخياله ليرى ورودا تنبت من أصابعه، من شعيرات رأسه المتناثرة، في غير ترتيب، لتُحيله إلى عقدة من سلسة الطبيعة الخلابة.

هل هذه صدمة الميلاد حقًا؟

(6)
بعد أن وصل “كاف” إلى نهاية طريقه.. بعد تجربته مع الشعور بالنشوة.. أيقن أن الإنسان يحمل بين طياته الموت كما يحمل الحياة.. يحمل القبح كما يحمل الجمال.. لكن لكل إنسان القدرة على جعل أحدهما خارج حلبة السباق.

بإمكان أي إنسان أن يسير في نفس الطريق الذي سار به “كاف” صباح اليوم.. لكن ليس بإمكان كل إنسان توغل النشوة في أعماقه.. لتستقر في جوف روحه.. لتهدئ من روعه لمجرد رؤية أشياء بسيطة قد تبدو في عين شخص آخر تافهة، الآن أدرك قول إيليا أبو ماضي، والذي أصبح إكليشيه: “كن جميلًا.. تر الوجود جميلًا”.

لكن حقًا؛ الجمال ينبع من الداخل حقا كما قال القائل، وأشار “كاف” إلى قلبه.

(7)
كانت المكتبة خالية من الناس إلى حد ما، اللهم إلا شيخ مسّن توحي قسمات وجهه وانحناءات جسده أنه بلغ من الكبر عتيا.. كان يقرأ كتابا يبدو عليه عتيقا، الرجل نفسه عتيق المظهر.. وكأنه عاصر الأزمنة كافة، لم يكترث له “كاف” وإنما ذهب إلى الركن الذي يهواه، يعتبره ملاذه الأول والأخير، يرى أنه القوقعة التي يتكور بها ليحمي نفسه من القبح المنتشر حوله، عندما انتهى من قراءة كتابه أفاق على صوت المُسن وهو يقول: اقترب!

(8)
اقترب “كاف” من المسن ليشير بأصبعه السبابة إلى جسده، وهمّ بسؤاله: أتقصدني أنا؟

– وهل هناك أحد غيرك؟
جلس “كاف” في مقعد مقابل للمسن، ظهرت على وجهه علامات الحيرة.. أما العجوز فكانت ملامحه هادئةً هدوء الموت.

قام المسن بملء رئتيه بدفعة هائلة من الهواء، في صورة شهيق أخرجه بعدها ببطء، وكأنه انتهى توا من هرولة مستمرة.. همّ قائلًا: حزنك الذي يخضرّ كلما مررت بضائقة أو معضلة مرتبط بسنوات حياتك.. لقد أرهقت روحك بها.. لكن لا عليك، وأنا في مثل سنك كنت أحمل السماء على عاتقي، أحتضر يوميًا في سرير الوحدة، أعتقد أني كنت لا مرئي.

مللت الحياة حتى حدث أمر غير مألوف؛ أثناء سيري في أحد الأزقة تعثرت قدمي بحجر لأنكفئ على جبهتي محتضنا الأرض، نهضت متثاقلًا من موضعي لتلتقي أنظاري بورقة مدون عليها بخطٍ واضح “وهل عظامك زجاجية كي تنهار؟” لا تستطيع أن تتخيل ما حل بي لحظتها، كأن الأرض اصطدمت بالشمس لتنفجر في عقلي الباطن.

(9)
لقد قضيت عمري تائهًا، أبحث عن أجوبة لاسئلتي التي اعتبرها مَن حولي محض زندقة أو جنون. وبالرغم من ذلك ظللت أبحث.. أنقب عمن يساعدني في حلها، وبعد فترة وجيزة عرفت أنه لا أحد قادر على مساعدتك سوى نفسك. لكنني كسول، بقيت في غرفتي محصورا بين أربعة جدران أنتظر الوحي، هذه الورقة هي التي جعلت حياتي التي تشبه الماء الراكد تهتز بعنف لأتساءل: ما ضير لو أنني بحثت عن سر وجودي هنا؟

تلك السنوات ظللت صامتًا. نسيت بها كيف أتحدث فقط أصبحت كضباب ثقيل.

لم أحاول حل مشكلاتي يومًا، وإنما استمررت في الهرب حتى رأيت ظلالا داكنة تعيق رؤيتي للحقيقة.. انعدمت الرؤية. وقتها تأكدت أن غرفتي هي العالم الذي يقيني شر نفسي.

حتى الآن تمر أمامي هذه الكلمات “و هل عظامك زجاجية كي تنهار؟”. بكيت على الأيام التي لم أتمتع فيها بالصلابة، والتي وجب أن أتمتع بها، لكن شكرت القدر على تلك الوريقة التي جعلتني أقوى لمواجهة صعاب الحياة، ومضيت قدمًا.

(10)
خرج “كاف” من شروده قائلًا: ما الذي حملك على قول هذا لي؟!
فرد العجوز: عيناك مرآة. رأيت فيهما ما تدفنه داخلك وتخشى أن يطفو على سطحها.
“كاف”: ولكنني متعب.
المسن: لا أطلب منك سوى التنقيب عن موضع الجمال المختبئ حولك.
“كاف”: سأحاول..
العجوز: لا، عليك أن تفعل لا أن تحاول.

(11)
وصل “كاف” حجرته، وألقى جسده المنهك على سريره. كان هادئا كطلقة نائمة في جوف بندقية. فكر فيما قاله الشيخ ثم أيقن أن الواقع يجب أن يُعاش، سواء أراد أم أبى.. فمن الأفضل أن يعيشه راغبًا قانعًا حتى لا يكون بمثابة جحيم.

هل يجب عليه أن يطلب يد العون في رحلته التي كفله بها الشيخ؟ لا، عليه أن يسير على خطى عقله وقلبه.. لا على خطى أحد حتى لا يقع تحت استعباد كهنوته.

(12)
بعد ليلة دامية التفكير، هرب كاف من سريره مبكرًا، فكر في أن يذهب لدار المسنين الذي اعتاد أن يزوره مسبقًا لزيارة جده قبل أن يتوفى؛ ويصاب بنوبات الاكتئاب التي فتكت به رويدًا رويدًا.

ارتدى ملابسه بشيءٍ من الضجر.. لكن جاهد نفسه حتى لا تهزمه وتجبره على المكوث في قوقعته.

ما أن وطأت قدماه خارج بيته؛ حتى سرت في جسده قشعريرة مجهولة المصدر. ما دفعه ليكمل طريقه.

“كاف” الآن هادئ. جالس بين المسنين الذين اعتاد رؤيتهم من قبل، ولكن منهم من رُفعت روحه إلى الأعالي لتحلق في إكسوسفير بعيد عن موضع الأحياء، ومنهم من ما زال على كرسيه المتحرك.

هذه المرة استمتع بمجالستهم، عكس ما كان يحدث سابقا. وكأن شغفه عاد تدريجيا، ظهر على هيئة شبح. مرت السويعات التي قضاها بينهم كالحلم، وكان متعطشًا للحياة التي فقدها منذ زمن.. هناك وجدها.

هذه السويعات القليلة جددت مثابرته، شعر بأن الجمال في قلوب هؤلاء ما هو إلا ظل جمال الطبيعة في طلتها الأولى يوم عرسه. هدأ روعه واستقرت روحه، وكأن غدده الشغفية نشطت بعد عطل طويل.

سار ببطء خارج هذا المبنى العتيق والابتسامة تغزو شفتيه.. لتكشف عيناه عن السلام الكامن في قلبه.

وأثناء مسيرته التقى بشيخ المكتبة، فهمّ باحتضانه ليغرق بين ذراعيه، وكأن عناقه هيمن على كل منهما.. فصمتا حدادا على نفسيهما صاحبتا الحزن، نظر إليه المسن نظرة تشي بالسلام كعادته، فقال “كاف”: الآن أحرقت قصورًا من الاكتئاب، أردت أن أنير الظلام الذي عشش في قلبي، ولم أكن أعلم؛ لقد قفزت من شرنقتي التي باتت تضيق إلى عالم رحب.

فرد الشيخ مقهقهًا: الحياة ليست كما تعتقد الآن.. ولا كما اعتقدت مسبقًا، ليست بيضاء أو سوداء فقط، إنما هي مزيج منهما، أحيانًا يظهر القليل من الوردي، وكثيرًا ما ينتج الرمادي، الأجدر أن تتكيف معها.

“كاف”: إنك في طريقك لتعيدني إلى ما كنت عليه.

الشيخ: لا، عندما طلبت منك أن تبحث عن الجمال حولك، كانت غايتي أن تعرف أن الحياة ليست سوداوية كما اعتقدت، أطلب منك قبل أن ارحل ألا تكن أحادي الفكرة تؤمن بها إيمانًا مطلقًا؛ كن واقعيًا. لا تنحنِ أمام أي مشكلة تواجهك أو ترى في الفرح سرمديته فتبكي لزواله، تكيف مع الحياة حتى تكمل رحلتك بها.

“كاف”: ولكن؟
قاطعه المسن: ستعتاد!
الجريدة الرسمية