رئيس التحرير
عصام كامل

محمد عبده «الإمام المصلح»


تسلح بالفكر المستقل المطلق، مغلفًا بشجاعة أدبية غير معهودة، في محاولاته لكسر حالة الجمود التي أصابت الأزهر الشريف والذي علق عليه كل آماله نحو الإصلاح الدينى في مصر والعالم الإسلامي، كونه أكبر مؤسسة إسلامية تعليمية آنذاك، فكان يرى أنه لا سبيل لنهضة الأمة إذا لم تؤسس نهضتها على الدين.


يُعدّ «الإمام محمد عبده» واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامى في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وإعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربى من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية ومفهوم الدولة المدنية الحديثة، وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية.

كانت نشأة الإمام الأستاذ -كما يلقبه البعض- والأطر التي مر بها في حياته عاملا جوهريا في تشكيل فكر الإمام المجدد ومنهجه المعتدل الجامع بين التراث والحداثة، فقد تعلم أثناء طفولته بكتاتيب قرية محلة نصر بمركز شبراخيت التابع لمحافظة البحيرة وحفظ القرآن، وعندما بلغ السابعة عشرة التحق بالأزهر الشريف، وفى عام 1877 حصل على الشهادة العالمية، اشترك في الثورة العرابية ضد الإنجليز رغم أنه وقف منها موقف المتشكك في البداية؛ لأنه كان صاحب توجه إصلاحى يرفض التصادم، إلا أنه شارك في نهاية المطاف، وبعد فشل الثورة حكم عليه بالسجن ثم بالنفى إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات، حيث عمل هناك كمدرس، سافر بعدها إلى باريس بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغانى سنة 1884، وأسس صحيفة العروة الوثقى، وفى عام 1885 غادر باريس إلى بيروت، وفى نفس العام أسس جمعية سرية بذات الاسم «العروة الوثقى»، إلى أن عُيِّن قاضيا في محكمة بنها عام 1889 حتى وصل إلى مستشار بمحكمة الاستئناف، وفى عام 1899 عين مفتيا للديار المصرية وعضوا في مجلس الأوقاف، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته 1905.

منهجه الإصلاحي
انتهج الإمام محمد عبده منهجا وسطيا تنويريا، إذ أدرك منذ البداية أن «التقليد والانقياد» اللذين ينتهجهما تيار «الجمود» ذلك التيار الأصولى القابع في رحاب فكرية العصور المملوكية والعثمانية، تلك الحضارات الدخيلة على الثقافة المصرية، أضفوا قداسة الدين على فكر العصور المظلمة فحرموا التفكير فيه والاجتهاد في قضاياه، وتيار «التغريب» أو التيار العلمانى ذاك التيار الذي انبهر أنصاره بمظاهر الحضارة الأوربية، فوقفوا منها موقف «المقلد»، وهما أخطر القلاع وأمنع الحصون التي يُحبس فيهما أي بادرة نحو سبل التجديد الملائمه للطبيعة المصرية العربية والمتماشية مع اعتدالية الهوية الإسلامية السمحة.

محاربة الجمود
حاول الإمام أثناء محاربته للتقليد «الأصوليات الدينية» إحداث نهضة فكرية حديثة، وثيقة الصلة بأصولها وثوابتها الحضارية، تصطبغ بالروح الدينية دون أن تصل هذه الصبغة إلى حد «الكهانة» أو ما يعرف بـ»السلطة الدينية» التي تستبد فيها بمقدرات البشر باسم الدين، معتمدًا في ذلك على العقل والنقل معًا، بالرجوع إلى مواريث الأولين ممن سبقوا عصور الانحطاط، وكشوف اللاحقين وعلومهم، يتبلور عنه طور جديد للحضارة الإسلامية العربية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ.
كان الإمام يرفض فكرة قفل باب الاجتهاد، أو التقيد بفتاوى الإجماع، وكان يعتقد بإصرار أن من حق كل جيل العودة إلى مصادر الإسلام الأولى، القرآن الكريم وصحيح الحديث والسنة، وفهمهم في ضوء ظروف العصر الذي نعيش فيه، فخبرات وتجارب وعلوم ومشكلات كل جيل، تختلف عن مثيلاتها من الأجيال والأزمان السابقة، لكنه اشترط أن يكون الأساس في فهم مصادر الإسلام الأولى هو العقل والمنطق.
يقول الإمام محمد عبده في هذا الصدد: «لقد نشأت كما نشأ كل واحد من الجمهور الأعظم من الطبقة الوسطى من سكان مصر، ودخلت فيما فيه يدخلون، ثم لم ألبث بعد قطعة من الزمن أن سئمت الاستمرار، على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون، فعثرت على ما لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت وارتفع صوتى بالدعوة إليه، يجب تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، والنظر إلى العقل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة».

تخليص الأزهر من الجمود
تسلح المجدد محمد عبده بالفكر المستقل المطلق، مغلفًا بشجاعة أدبية غير معهودة، في محاولاته لكسر حالة الجمود التي أصابت الأزهر الشريف والذي علق عليه كل آماله نحو الإصلاح الدينى في مصر والعالم الإسلامي، كونه أكبر مؤسسة إسلامية تعليمية آنذاك، فكان يرى أنه لا سبيل لنهضه الأمة إذا لم تؤسس نهضتها على الدين، فضلا عن أنه أحد أبنائها، وكان عندما يتطرق إليه اليأس من إمكانية إصلاح الأزهر الذي كان غارقا وقتئذ حتى قمة رأسه في غياهب المحافظة والجمود، فإن آماله كانت تتعلق بـ»دار العلوم» التي تجمع بين علوم الدين وعلوم العصر، فكتب أن «دار العلوم تصلح أن تكون ينبوعًا للتهذيب النفسى والفكري، والدينى والخلقى، ويمكن أن ينتهى أمرها أن تحل محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد التربية في مصر».

وبالفعل حقق الأستاذ الإمام نجاحا جزئيا في صراعه ضد تيار الجمود في الأزهر، فاستطاع أن يُدخل بعض العلوم الجديدة إلى مناهج الأزهر مثل الجغرافيا والفلك والفلسفة والمنطق والتاريخ إلى جانب العلوم الشرعية، الأمر الذي كان يراه مشايخ الأصولية والتقليد «بدعا» مستحدثة تدخل في باب الضلالات التي ستلقى مع أصحابها في النار، ورغم كل ذلك إلا أنه أخفق في البلوغ بالأزهر إلى ما كان يريده له، ليصبح منارة للتجديد الدينى ينطلق من تراث العصر القديم إلى الحديث دون أن يكبل العقول ويثقل خطاها بفكرية عصر الركاكة والانحطاط، مثلما كان يراه.
يرى الإمام أيضا ضرورة الارتقاء باللغة العربية وتنقية مفرداتها حتى لا يستغلها التياران في تأويل مفردات القرآن الكريم من شأنه المساس بثوابت العقيدة.

محاربة «التغريب»
حارب محمد عبده «دعاة التغريب» أو ما يطلق عليهم المتمدنين، ممن صبغوا أنفسهم بصبعة أوربية، يرون في النقل تخلفا هكذا بإطلاق، ويرون في التراث قيودا تشد الأمة إلى العصور المظلمة تتجسد في شكله المملوكى العثمانى، قادهم النفور إلى إهمال الجامعة الإسلامية، وقدموا الوطنية كبديل لرابطة التضامن بين أبناء الملة والدين، وهو ما حقق خدمة عظمى للاستعمار، الأمر الذي تصدى له «عبده» بالحجة حيث كان منهجا مخالفا لمنهجه الوسطى الذي تبناه، والذي يجمع بين سماحة الإسلام وتعاليمه وحداثة الغرب، بما يتوافق وعادات العرب والمسلمين دون الإخلال بأحدهما.

موقفه من الطرق الصوفية
يقول إنه «لم يجد في أمة من الأمم ما يضاهى الصوفية في علم الأخلاق وتربية النفوس، وأنه بسبب ضعف هذه الطبقة فقدنا الدين»، ويقول أيضا: «قد اشتبه على بعض الباحثين في تاريخ الإسلام وما حدث فيه من البدع والعادات التي شوَّهت جماله السبب في سقوط المسلمين في الجهل، فظنوا أن التصوف من أقوى الأسباب وليس الأمر كما ظنوا».
الجريدة الرسمية