رئيس التحرير
عصام كامل

المواطنة في ضوء «وثيقة الأخوة الإنسانية»

جاء في نص وثيقة الأخوة الإنسانية الصادرة عن الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكية: «أنَّ مفهومَ المواطنةِ يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم».


والمواطنة كلمة مأخوذة من الوطن، وهو مكان إقامة الإنسان ومقره، سواء ولد به أم لم يولد، والمواطنة تعني المساكنة في الوطن الواحد، وهي لفظة تفيد التفاعل والتشارك والتوافق بين أبناء الموطن الواحد، فمن اختار بلدًا ليعيش فيه فلا بُدَّ أن يكون متشاركًا ومتفاعلًا ومتوافقًا مع أهل هذا الوطن الذي يقطن فيه. 

وثيقة الأخوة الإنسانية حدث فريد له تأثير عالمي

و«المواطنة» من المفاهيم التي نرى أنه ينبغي ترسيخها في المجتمعات المعاصرة اليوم، وهو مفهوم يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية. والمواطنة من الأمور التي تُشْعِر الإنسان بالانتماء لوطنه، والإحساس بقيمته، والشعور بكرامته، والتي تجعل كل فرد عضوًا صالحًا في مجتمعه، ولاءً وانتماءً وعملًا وسلوكًا، حيث يتمتع بحقوق المواطنة، ويحرص على أداء واجباتها.

وإن مما يؤكد اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوطن، وحبَّه له، وحزنَه على فقده، ما فعله صلى الله عليه وسلم وهو يودع وطنه الحبيب مكة المكرمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَال: وَقَفَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَال: «عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْت» (أخرجه أحمد في «مسنده»، بسند صحيح).

ومما يُدلِّل على قيمة العطاء للوطن والحرص على نفعه «حِلْفُ الفُضُولِ»، ذاك الحِلْفُ الذي حضره النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقتبل عمره، وقبل بعثته الشريفة، والذي هدموا به صروح الظلم، وأقاموا به منارات العدل والحق، وقد أظهر هذا الحلفُ قيمةَ العدل، وبَيَّنَ أن الظلمَ مرفوضٌ بأي صورة، ولو وقع على أقل الناس، وجواز التحالف والتعاهد على فعل الخير، وهو يعتبر من مَفاخر العرب وعِرفانهم لحقوق الإنسان، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «شهدتُ حلف المطيِّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبُّ أنَّ لي حُمرَ النَّعَم، وأني أنكثُه».

ولقد أقام النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- مجتمعًا فاضلًا يتأسَّسُ على هذه القيمة الإيجابية النبيلة، وحرص على إرساء مفهوم المواطنة حين قدم المدينة المنورة، وذلك من خلال ما أَرْسَته وثيقةُالمدينة ودستورُها الخالد في العهد النبوي..

وقد تقررت حقوقُ المواطنة على أساس قاعدةٍ فذَّة قرَّرها فقهاء الإسلام العظام: «لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين»، فحماية الأنفس، والدماء، والأموال، والأعراض، ودور العبادة، وممارسة حرية العقيدة، من الحقوق التي يكفلها الإسلام لكل من يعيش تحت ظله، ويهنأ بتعاليمه؛ فالمواطنة تعني الولاء الكامل للوطن، والانتماء الخالص للمجتمع والدولة، والعمل على رفعته، والدفاع عنه، والشعور بالمسئولية في تحقيق النفع العام، واحترام حقوق الآخرين، وحرياتهم، وهذه المواطنة تقوم على حقوق مدنية، وسياسية، واجتماعية، وقانونية، وغيرها.

أمين الأخوة الإنسانية يطالب الكتاب بتسخير أقلامهم لمناصرة الأخوة الإنسانية

وللمواطنة في الإسلام قيم من أهمها: التعايش السلمي، حيث جعل الإسلام المحافظة على الأنفس والأعراض والأموال من الضروريات الخمس، وحرم الاعتداء عليها، وعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مواثيق من شأنها أن تحقق السلام في المجتمع، وتعلي من قدره، وترسي دعائم العلاقات السلمية بين المسلمين وغيرهم.

وإنَّ من أبرز قيم المواطنة في الإسلام: بناءَعلاقة إيجابية بين الحاكم والمحكوم، تقوم على احترام الحاكم، وتوقيره، والوفاء له، وتحقيق ما فيه صلاح الرعية وسعادتهم، واحترام النظام والقانون؛ لصيانة المجتمع من الخلل والفوضى، وحرصًا على أن يظل المجتمع في تقدم وازدهار؛ وذلك لتوفر الأمن والاستقرار.

ومن مبادئ المواطنة التي لا تستغني عنها أمة، ولا يستغني عنها شعبٌ: التكافل الاجتماعي، بحيث يستشعر أبناء المجتمع الواحد بعضهم ببعض، فيرعى الغنيُّ الفقيرَ، وينصر القويُّ الضعيفَ، ويمد كل فرد في المجتمع يد العون للآخرين ماديًّا ومعنويًّا.

ومن قِيَمِ المواطنة في العهد النبوي الشريف: بناء علاقات إنسانية راقية، بين الإنسان وأخيه الإنسان، فشرع الإسلامُ الحقوقَ العامةَ والخاصةَ كحقوق الوالدين والأرحام والأقارب والجيران والضيوف والأصدقاء والزملاء وغيرهم، واعتنى الإسلامُ بالأسرة، وعدَّها نواةَ المجتمع وأساسَه، فوطد العلاقة بين الزوجين، وأقامها على أساس المودة والمحبة.

ومن قيم المواطنة في العهد النبوي: بناء الإنسان من الناحية العلمية، والعمل على بناء مواطن مؤهل لمساعدة مجتمعه والارتقاء بوطنه، والإسهام في رفعة بلاده في شتى المجالات، وقد أعلى الإسلام قيمة العلم، وأولاه النبي صلى الله عليه وسلم عناية كبيرة، وكان العلم والمعرفة من أهم سمات الحضارة الإسلامية البارزة.

ومن أبرز قيم المواطنة الصالحة: التخلق بالأخلاق الحميدة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، ولا تقوم الأوطان، ولا تنهض الأمم إلا على أساسٍ متينٍ من الأخلاق النبيلة والشيم الجليلة. ومن القيم التي ينبغي ألا تغيب عمن ينشد مواطنة صحيحة: التحلي بالوسطية والاعتدال، ونبذ الغلو والتطرف، وقد كان هذا سمة المجتمع النبوي الشريف.

وبالجملة نقول: إننا إذا أردنا أن نتلمس قيم المواطنة في السنة النبوية المطهرة أو في منهج السيرة المشرفة فلن يعجزنا البحث، ولن يرهقنا الأمر؛ لأن الأمثلة في ذلك أكثر من أن تُحْصَى، وأوفر من أن تُستَقصى؛ فحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها كانت تطبيقًا عمليًّا نموذجيًّا لآداب القرآن المجيد، وتعاليم الرسالة الخاتمة السمحة التي تدعو إلى كل نبيل، وتنهى عن كل رذيل.

والذي يظنُّ أن الإسلام دينٌ لا يقبل العيش مع دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفرَدوا في العالم بالبقاء والتسلُّط، هو رجل مخطئ، بل متحامل جريء، لا يعرف تاريخ المسلمين الماجد وحضارتهم السمحة.
الجريدة الرسمية