رئيس التحرير
عصام كامل

إحياء صحافة حقوق الإنسان

قبل عقدين ظهرت ما يمكن تسميتها بصحافة حقوق الإنسان فى مصر، كركن مهم من متابعات يومية تشجعها أنشطة مؤسسات المجتمع المدني العاملة بعدد من المجالات ذات الصلة، إلا أنها اختفت مؤخرا وتراجعت بشدة.


كانت صحف متنوعة خصصت بعض محرريها لتغطية قطاع "المجتمع المدني" ويتسع مفهومه لديها ليشمل المؤسسات الأهلية والنقابات والأحزاب والحركات وكذا الأفراد وكافة الجهات العاملة إلى جانب أجهزة الدولة أو المراقبة لها، وشجعت حالة الحراك السياسي والشعبي بشكل مباشر على نمو هذا الشكل من التخصص الصحفي، خاصة مع تنوع توجهات الصحف ذاتها وتباين أشكال الملكية لها.

ضوابط لتأمينات الصحفيين والمهن الحرة

وفرضت تباعا هذه الحالة نفسها على تناول الفضائيات لنفس القضايا لتتجاوز طور المناشدات إلى مسار النقد والتصحيح، وفى كل الأحوال كان محررو حقوق الإنسان نواة أساسية داخل ورش العمل فى الصحف والفضائيات تلك معا، إلى جانب الاعتماد على زملاء تخصصوا فى تغطية جهات رسمية، وهكذا كان التنوع أساسيا أيضا فى مادة صحفية وإعلامية يستمتع بها المواطن وتحترم عقله.

جرت العادة فى بعض الصحف وقتئذ على تخصيص صفحات كاملة لأخبار وتقارير مؤسسات المجتمع المدني وقضايا حقوق الإنسان، وفى ظل تسويق بعضها لسياسات نظام مبارك ظهرت صحف مهاجمة لكل حالة داعمة لتلك الحقوق صحفيا وإعلاميا، فيما آثرت أخرى السلامة وفضلت المتابعة عن بعد وعدم دخول معارك اعتبرتها محسومة بما تقره أحكام قضائية ختاما فى جملة القضايا المتناولة.

جيل جديد من محرري حقوق الإنسان صعد خلال الفترة بين ٢٠٠٣ و ٢٠١٠ أصبح متشبعا بثقافة مهنية جديدة أثرت الحياة الصحفية، وبات التخصص مهما لدى مؤسساته حتى إذا ما تسارعت المتغيرات السياسية فى مصر خلال العقد الأخير، وتغيرت أشكال وطبيعة ملكية تلك المؤسسات، ونهضت وسائل التواصل الاجتماعي، اختفت تباعا تلك الشريحة من المحررين وغاب تخصصها، وأصبحنا أمام "متابعين" لأنشطة مدنية عابرة.

أسهم بشدة غياب أو تغييب نشاط مؤسسات مدنية فى تراجع الاهتمام بصحافة حقوق الإنسان، وظهرت فى المقابل الأخبار الخاصة الموجهة المقتبسة من صفحات فيس بوك وتويتر وغيرها، لنشطاء وناشطات بها من الشطحات والإثارة ما يعزز إهتمام غير مهنيين بها، وأصبح "التريند" عنوانا لاهتمام رؤساء أقسام ومديري الصحف خلال اجتماعاتهم اليومية.

على خلاف الصحيح من القول والسلوك المهني بدأت قدرة ناشطات ونشطاء على الإثارة وراء استدعائهن فى حديث عن قضايا كارثية حقا تنتهك فيها حقوق الإنسان كل لحظة، وليس أقل من تقديم فضائية هنا أو موقع هناك لأحدهن أو أحدهم يتحدث فى شأن القانون والتشريع والميثاق الدولي عن جهل، فلم يعد الوصول إلى الحقيقة هدفا بل إثارة المشاهدين والقراء وكسب شريحة منهم إلى جانب هوى المذيع أو الصحفي أو سياسة القناة والجريدة.

محكمة الهاشتاج والجريمة الضاحكة

قس على ذلك تناولات فجة لكل من حقوق الطفل والأسرة والمجتمع عند استضافة صحفية أو فضائية لمتحدثين فى شأن قانون الأحوال الشخصية المصري، ستجد بالضرورة أن صحافة حقوق الإنسان تراجعت لحساب صحافة نسوية، وغاب مبدأ المساواة وعدم التمييز بفعل جهل إعلامي بتداعيات الإنحياز وأخطرها أن حقوق الإنسان باتت مجزأة وأن المجتمع مهدد بقسمة بين رجل وامرأة.

كل عام تقدم نقابة الصحفيين جوائز التفوق لأعضائها فى تخصصات مختلفة، دون أن يكون بينها تخصص "حقوق الإنسان"، رغم أن ملفات أخرى لم تعد على نفس المستوى من المهنية، فلم يعد الاقتصاد أكثر من بيانات ترويجية ربما مدفوعة فى كثير من الحالات، ولم تعد الصحافة الرياضية داعمة لأخلاق التنافس أو مهتمة بتحليل الأداء بعيدا عن أسعار عقود النجوم وانتقالاتهم، ولا أظن أن غياب رابطة لمحرري حقوق الإنسان داخل النقابة وراء غياب هذا الفرع من التنافس الصحفي.

لست من المتشائمين عند الحديث عن إصلاح مسار، لكن حلولا واقعية يمكن أن تفرض ذاتها بحوار مؤسسي داخلي يعيد ل"صحافة حقوق الإنسان" الواعدة مكانتها، ويرسم تصورا جيدا للتخصص فيها، ويضع جيلا جديدا من الزملاء على طريق ممهد لدعم ثقافة حقوق الإنسان بإعلام حقيقي قادر على التأثير فى المجتمع، لا يتأثر بتقلبات أشكال الملكية والتوجهات الخاصة بالصحف والفضائيات، خاصة وأن إدارة مواردها تشكل أزمة جديدة فى ظل منافسة وسائل الإعلام الإلكتروني الشعبي لها.
الجريدة الرسمية