رئيس التحرير
عصام كامل

أهالينا

فى إحدى سنوات الجامعة، نظمت كليتى رحلة إلى الأقصر وأسوان، بدأت بزيارة الأقصر أولا، وفقا للجدول المعد، وبعيدا عن برامج الرحلة المعدة مسبقا، كانت هناك جولات حرة بالمدينة العامرة، إلى أن استيقظنا يوما على زميلنا حمدى، الذى ما إن علم بقدومنا إلى الأقصر وكان عددنا يقارب العشرين أو أكثر تقريبا، إلا وحضر إلى الفندق الذي نقيم به مبكرا، منتظرا إيانا حتى الفراغ من برنامج الرحلة.


كان حمدى قد قرر استقبالنا جميعا بعددنا الكبير هذا، فى منزله بنجع الهدايات بمحافظة قنا، وهو ما استلزم أن نستقل مركبا لعبور نهر النيل، ثم نستقل سيارة أخرى إلى بلدة صديقي.

نزلنا من المركب وبالفعل وجدنا سيارتين كبيرتين تنتظران الموجودين، مع حسن الاستقبال البالغ والبشاشة من السائقين، لأننا ضيوف البلدة بكاملها ولسنا ضيوف حمدى فقط، وفق قول أحد السائقين، ولهذا معناه الكبير وترك أثرا بالغا فى نفوسنا جميعا.

ملهمة الخيال

وصلنا إلى دار حمدى، فيما حاول أحدنا أن يدفع أجرة الانتقال للسائق، الذى نهره بشدة، مخبرا إياه أنه بفعلته تلك إنما يشتمه ويشتم زميلنا، وأن الضيف له كامل الواجب والإكرام، بداية من مقر قدومه وحتى العودة إليه مرة أخرى.

وصلنا إلى مضيفة زميلنا العامرة، للاستراحة من الطريق، وكانت عقارب الساعة تقترب من التاسعة مساء فى شتاء قارس، إلا أننا فوجئنا بأولاد عمومة زميلنا يتوافدون من كل الجهات، لاستقبالنا والترحيب بنا فى كرم بالغ وكأنهم يعرفوننا منذ سنوات.

استقبلتنا الأم الفاضلة، والدة زميلنا فى قاعة الطعام الكبيرة، بأمومة بالغة، وهى تشدد عليه وعلى أبناء عمومته أن يهتموا بوضع كافة أصناف الطعام الشهى أمام كل منا بذاته والتشديد على تناول الطعام كاملا مع الاهتمام بتناول اللحوم والزفر أولا، مقسمة ألا ننهض مطلقا من جلستنا، إلا وقد فرغت تلك الأوانى تماما، وكانت توصي أبناءها القائمين على ضيافتنا بأن من قاربت أطباقه على الانتهاء، أن يستبدلوها فورا دون سؤال، بأخرى مليئة بالخيرات.

انتهينا من الطعام وقد استلقى كل منا على ظهره من فرط الشبع، داعين لها بالصحة وطول العمر وعمار المنزل الكريم ببركتها، ثم تولى أبناء العمومة، إكمال طقوس الفراغ من الطعام بإحضار أباريق المياه لغسيل الأيدي فى أماكننا.

ثم بات على هذا الجمع كله أن  يعود إلى المضيفة مرة أخرى، لإكمال باقى الواجب الذي طلب حمدى جزءا منه هاتفيا، وكان عبارة عن خمس خرطوشات سجائر وعشرة صناديق مثلجات، وكانت السجائر لمن يدخن وأيضا لمن لا يدخن، والخرطوشة هي صندوق يحتوي على عشرين علبة سجائر، مؤكدا أن من لا يدخن حتى، لابد أن يأخذ واجبه وهو حر فيه كيفما شاء فيما بعد.

انهال الواجب على الجالسين من أبناء العمومة، كل أخرج علبة سجائره، يضعها أمام الحضور واحدا تلو الآخر، وكان عيبا أيضا أن يفكر أحد المدخنين الضيوف، فى فتح علبة سجائره الخاصة، أو يفكر حتى فى إخراج عقب واحد منها، فهذا الواجب لطريق العودة، أما وأنت فى حضرة الكرم، فلابد أن تلتزم بقواعده.

ومع السجائر، كان هناك براد الشاى الذى لم تخمد نيرانه مطلقا، ثم استراحة بسيطة لتقديم صواني الفاكهة، أعقبها مشروبات دافئة مثل اليانسون والحلبة والقهوة تناسب طبيعة الشتاء، إلى أن أخبرنا حمدى بأن هناك ثلاثة منازل كاملة خالية مجهزة لمبيت الضيوف حتى الصباح، ومع رغبتنا فى المبيت ومحاولتنا إخبار إدارة الرحلة هاتفيا بعزم المبيت، فشلنا فى ذلك، فلم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت بعد، وحاولت إدارة الفندق توصيلنا بالمشرف على الرحلة إلا أن المساعي فشلت، و اضطررنا إلى اتخاذ قرار العودة الليلية.

الجنيه والست أم أحمد

وفى طريق تحرك هذا الجمع الكبير العدد، أصر حمدى على أن جده الكبير يريد استقبالنا فى دواره المتسع، كى نحتسي معه الشاى، وبالفعل استقبلنا الجد فى أحسن ما يكون الاستقبال مناديا على من بداخل المنزل، بأن يحضروا الطعام، وقد كانت بطوننا بالفعل متخمة من كثرة الأكل والشرب فى دار حمدى.

واستمتعنا بالجلوس فى حضرة الجد الكريم، إذ كان مثقفا للغاية فى أغلب المجالات، قارئا ومتابعا لكل الأحداث، وناقشنا فى دراستنا للإعلام، وعن وضع وسائل الإعلام حينها، مقسما أن نبيت ليلتنا فى البلدة، وحينما أخبرناه بصعوبة الوصول هاتفيا إلى أحد المشرفين، ودعنا على أمل اللقاء، وقد كانت عقارب الساعة تجاوزت الثانية صباحا، وكما جئنا وجدنا سيارتين تنتظرنا فى طريق العودة إلى المركب.

ما رويته هو جزء بسيط جدا عن ساعات  قليلة لمواطن من وجه بحرى، في بيوت الكرم والخير، بيوت أهل المحبة الخالصة والصفو النقي، بيوت الجود والإحسان، أهل الثقافة والفكر والعلم، أهل العزة والشموخ، أهلنا الأكارم فى صعيد مصر، دمتم فخرا وعزة لبلادنا.

الجريدة الرسمية