رئيس التحرير
عصام كامل

مصر المشرقيّة؟

18 حجم الخط

فى الصورة المشرقية الشائعة عن مصر أنها البلد المتماسك بفعل سلطة مركزية ضاربة فى القدم وتقاليد فى الحاكمية لم ‏يعرف المشرق مثلها. وهذا يبقى صحيحاً بالقياس إلى تفتت الإقليم السورى – العراقى الذى يستعرض نفسه اليوم بنشاط يكاد ‏يكون تباهياً‎.‎


بيد أن القياس هذا لا يكفى شهادةً على تماسك مصري، خصوصاً أن العراق امتلك، هو الآخر، سلطة مركزية ضاربة فى ‏القدم، وها هو يتناثر على نحو فسيفسائي‎.‎

أغلب الظن أن التاريخ السحيق لا يخدم الغرض كثيراً. فالمشهد المصرى الحالى ينحو، على ما يبدو، نحواً مشرقياً، وبدل ‏الحكمة القديمة القائلة إن مصر تشد مناطق التفتت العربية وتملى عليها قدراً من الانسجام، يتراءى كأن العكس هو ما يُعاش ‏اليوم ويُختبَر‎.‎

لكنْ إذا كان فى وسع أى متابع للأخبار اليومية أن يلحظ هذه الوجهة النامية، والقوى الكثيرة والمتعارضة التى تعكسها، فإن ‏الأمر يستند إلى تاريخ هو، فى معنى ما، تاريخ حداثتنا السياسية المرتبكة‎.‎

لقد تعرضت مصر فى تاريخها الحديث لثلاث إزاحات كبرى عن الوطنية المصرية. أما الأولى فقد افتتحها الشيخ حسن البنا ‏فى 1928 بتأسيسه «جماعة الإخوان المسلمين» ونقله موضع التركيز من الدولة – الأمة المصرية إلى الإسلام و«جماعة ‏المسلمين». ثم جاءت الإزاحة الثانية الأكبر مع جمال عبد الناصر وضباطه، لا سيما منذ 1956، فانتقل موضع التركيز إلى «الأمة العربية» و«القومية العربية». ولئن خدمت الساداتية، خصوصاً معاهدة كامب ديفيد، فى رد موضع التركيز إلى مصر ‏ومسائلها، إلا أن انفجار الهجرة إلى الخليج آنذاك أضعف النسيج الوطني، إذ استدخل فيه جرعة رفيعة من الاختلال ‏الاجتماعي. وهذا ما مضى بهمة أكبر فى عهد حسنى مبارك، مرفقاً بالانسحاب من السياسة الخارجية المبادِرة، وهى واحد ‏من أبرز مقومات السيادة الوطنية‎.‎

وفى قلب هذه الإزاحات جميعاً كانت المشكلة القبطية تزداد اعتمالاً واحتقاناً، مرة فى العلن ومرات كثيرة فى الكبت والعتم‎.‎

وتشكل سلطة الإخوان المسلمين اليوم، وهى بالمناسبة شعبية وقوية حتى لو خرج السلفيون من عباءتها، التجسيد المادى لهذا ‏الإضعاف المتراكم للنسيج الوطنى المصري. بل يمكن القول إن مشكلة الثورة المصرية والتطور المستقبلى لمصر كامنة ‏هنا: كيف تتعايش حرية الخروج من ربقة الاستبداد مع حرية التفتت الممأسس والمؤدلج إخوانياً فى أن تمارس نفسها ‏بطلاقة؟.

وفضلاً عن استفراد الأقباط فى المنعطفات الكبرى، والميل إلى تقديمهم أكباش محارق، تنم ظاهرة اغتصاب النساء ‏الناشطات، وهى واسعة وتكاد تكون منهجية، عن استسهال التلاعب بالنسيج الوطني، وعن الدَرَك الذى يمكن أن يهبط إليه ‏هذا الاستسهال‎.‎

وهذا فى عمومه يشبه الوجهة المشرقية، حيث نشهد اليوم فى عديد البلدان عجزاً عن قيام كتلة سلطة تمسك بالبلد المعنى ‏وتقوده. فإذا صح ذلك فى مصر أيضاً، كان علينا أن نراجع أموراً كثيرة كنا ظنناها بديهيات. وهذا ما لن تستطيع مبادرة ‏حسنة النيات، أزهرية أو غير أزهرية، رأب صدوعه، فيما يُخشى قيام العسكر بـ «مبادرة» من نوع آخر تجمد تلك التناقضات ‏وتكبتها لجيل آخر أو جيلين.

نقلاً عن الحياة اللندنية

الجريدة الرسمية