وطن العميان
الوضع في مصر الآن ذكرنى بهؤلاء المهاجرين الفارين من "بيرو"، في مطلع القرن العشرين من طغيان واستبداد "الإسبان" وأثناء هروبهم حدث انهيار صخرى في جبال "الإنديز" فعزلتهم في واد غامض؛ إلى أن انتشر فيهم وباء أصابهم جميعا بالعمى.
وذات ليلة حاول أحد الخبراء ومتسلقى الجبال ويدعى "نيونز" تسلق جبل "الإنديز" إلا أن قدميه انزلقتا وسقط في هذا الوادى؛ وعندما استفاق من سقطته؛ نادي وصرخ؛ لكن لا أحد ينظر نحوه؛ هنا أيقن بالفعل أن هذا الوطن هو للعميان .. وكانت مشكلته الحقيقية هو كيف يشرح لهم ما معنى البصر.
لكنهم لم يفهموا شيئا؛ وراحوا يتحسسون وجهه ويضعون أصابعهم في عينيه؛ وبدا لهم أن عضوا غريبا هو ما يجعله ينطق بحديث غير مفهوم؛ ولم يجدوا سبيلا سوى أن يأخذوه لكبيرهم؛ وكانت له فلسفة عجيبة لكنها منطقية؛ فهم يعيشون حياتهم في ظلام من عقود؛ وبالتالى أصبح " نيونز" هو أكثرهم ضعفا في مجتمعهم.
وكان على "نيونز" أن يتأقلم على حياته الجديدة؛ وبدا له أن سيكون ملكا على هؤلاء القوم بكل سهولة؛ لكنه تفاجأ أن الأمر ليس باليسير كما تخيل؛ فهم يعرفون كل شىء بآذانهم؛ يعرفون متى مشى؟ وهل كانت مشيته على الصخور أم العشب؟ كما كان بمقدروهم أن يستعملوا أنوفهم بمنتهى بالبراعة.
وراح "نيونز" يحكى إليهم عن جمال الكون حولهم؛ ومشاهد الغروب وجمال وروعة الشروق؛ ويحكى إليهم ما يحدث أمام المنازل .. وهم يصغون إليه باسمين؛ لكنهم غير مصدقين؛ وبدا عليهم الشك؛ وسألوه "ألست تزعم أن البصر مهم"؟ إذن احكِ لنا ما يدور داخل المنازل؟
أدرك "نيونز" بعد فترة أن الحياة معهم مستحيلة؛ فحاول الهرب؛ لكنهم لحقوا به بطريقتهم العميانية المخيفة؛ كانوا يتشممون الهواء ويغلقون دائرة من حوله؛ وبعد محاولة للهروب يوما كاملا؛ وجد أنه لا بديل سوى الاعتذار؛ ومعترفا إليه بأنه غير ناضج؛ ولا يوجد شيء اسمه البصر.
ولأنهم أناس اعتادوا المغفرة؛ صفحوا عنه سريعا؛ وقاموا بجلده؛ وكلفوه ببعض الأعمال؛ وأثناء ذلك عشق فتاة جميلة؛ وقرر أن يطلب يدها من والدها؛ لكنه رفض طلبه؛ لأنه أقل من مستوى البشر.. كما أنه من المجاذيب؛ لكن مع ميل الفتاة إليه؛ قرر والدها طلب رأى الحكماء في مشكلته.
وجاء رأى لجنة الحكماء؛ وهو أن الفتى لديه شيئان غريبان يسميهما العين ؛ وهذا العضو المريض قد أتلف مخه؛ لابد من إزالة هذا العضو الغريب ليسترد الفتي عقله؛ وبالتالي يمكنه أن يتزوج الفتاة.
لكن أي ثمن هذا الذي يدفعه لأن يضحى بعينيه؛ لكن الفتاة ارتمت بأحضانه وبكت بهمس "ليتك تقبل".
ومن هنا أصبح العمى شرطا كى يرتفع من مراتب الانحطاط ليصبح مواطنا كاملا في مجتمع العميان؛ وقرر أن يودع آخر أيامه بالبصر؛ وخرج ليرى العالم للمرة الأخيرة؛ وبرؤيته للسماء والنجوم والأنهار والغابات ولون الفجر الساحر؛ أدرك أن حياته بوادى العميان جرم كبير؛ فكيف يفقد كل هذا لأجل فتاة؛ وأين كان عقله عندما أقنعه العميان أن البصر شىء لا قيمة له؛ فقرر الهروب؛ وصعد حاجز الجبل حيث مدخنة حجرية تتجه لأعلى وتسلق؛ وبغروب الشمس كان " نيونز" بعيدا جدا عن وطن العميان.
فما يحدث في مصر الآن هي محاولات مستميتة من حكماء العميان لفقء عيوننا حتى نسترد عقولنا المغيبة؛ يحاولون نزع أفكارنا الحالمة بمستقبل هذا الوطن؛ وكسر قيود الإذلال والتبعية؛ ما يحدث هو محاولات مستميتة فاشلة لعقاب الشعب على ثورته الأولى؛ وتأديبهم على موجتها الثانية؛ لكن لا يدرك حكماء العميان في وطننا؛ أن للفجر سحره وسيأتى يوم قريب سنتسلق فيه جبال الخوف ونهرب بالوطن لسماوات الحرية.
