خطورة العراق
جمعت ثورات «الربيع العربيّ» بين وجهين: طلب الحريّة وكسر النظام الاستبداديّ من جهة، و«تحرّر» التناقضات الأهليّة، الطائفيّة والدينيّة والإثنيّة، من قبضة ذاك النظام نفسه. وبدا، ولا يزال يبدو، أنّ الوجه الثانى هو الكلفة الباهظة التى نيط بالوجه الأوّل أن يتكبّدها.
فى هذا المعنى يجوز القول إنّ العراق كان سبّاقًا إلى «الربيع العربيّ»: ففيه أطيح الاستبداد وأُحرزت الحرّيّة فى 2003، مع إسقاط صدّام، وفيه انفجر الصراع الطائفيّ فى 2006 من دون أن يصل إلى سويّة الحرب الأهليّة المفتوحة.
وهنا لا يقدّم النقاش حول الدور الأميركيّ فى تغيير العراق أيّ مساهمة ذات نفع يتجاوز الديماغوجيا: ذاك أنّ حصول التغيير من الداخل ما كان ليغيّر شيئًا فى التنازع الطائفيّ الذى عرفناه، كما أنّ التغيير من دون تدخّل خارجيّ فى البلدان العربيّة الأخرى لم يحل دون انفجار ذاك التنازع. ولربّما جاز القول إنّ الدور الأميركيّ السابق فى العراق قد عمل على إبطاء التنازع المذكور وتخفيفه، وهذا كان المصدر الأكبر للتحفّظ عن الانسحاب الأميركيّ والخوف منه.
أين يقع الانفجار العراقيّ الحاليّ، المتجدّد بوتيرة مرتفعة، قياسًا بزاوية التلاقى الربيعيّ بين حرّيّة «الشعب» وتحرّر التنازع فى داخله؟
لقد جاء التحوّل العراقيّ فى 2003 ليزيح الرموز السنّيّة عن السلطة ويضع الأخيرة فى أيدى رموز شيعيّة. وقد اكتملت العمليّة هذه باكتمال الانسحاب الأميركيّ الذى رافقه توسّع النفوذ الإيرانيّ فى بلاد الرافدين. هكذا اعتُبر العراق جائزة متأخّرة استحقّتها «الثورة الشيعيّة» التى ظهر إرهاصها مع حكم حافظ الأسد، لتبلغ تتويجها فى الثورة الإيرانيّة فى 1979 وليكون «حزب الله»، منذ 1982، أحد أبرز تداعياتها الإقليميّة.
غير أنّ تأخّر هذه الجائزة ثلث قرن جعلها تتزامن مع هبوب «الثورة السنّيّة». وبالنظر إلى التداخل الوثيق بين سوريّة والعراق، كان لاندلاع الثورة السوريّة أن ترك أثره الواضح على سنّة العراق رفعًا لمعنويّاتهم وتشجيعًا لهم على التجرّؤ على «حكم شيعيّ» غير مقبول منهم.
هكذا يبدو التنازع العراقيّ اليوم صريحًا وواضحًا وفجًّا، يملك من الأغطية الايديولوجيّة الحديثة أقلّ ممّا يملكه أيّ تنازع آخر فى بلدان «الربيع العربيّ». هنا تقال الأشياء بأسمائها بأقلّ قدر من التزويق والمداورة. مثل هذا الوضوح، وإن بدمويّة أقلّ كثيرًا، يرسم التنازع العربيّ – الكرديّ أيضًا، حيث غدا «العيش المشترك» كذبة يتعفّف عنها أكثر إيديولوجيّى الطرفين تزويقًا وتعمية.
بيد أنّ التزامن بين تقديم الهدية لـ»الثورة الشيعيّة» وبين هبوب «الثورة السنّيّة» فى عموم المنطقة يجعل أمر العراق حسّاسًا جدًّا وخطيرًا جدًّا، إذ يصعب أن يحتمل مكان واحد احتفالين صاخبين ومتعارضين فى وقت واحد. فإذا ما توسّع الانفجار الذى انطلق من الأنبار فإنّه بالتأكيد سوف يجرف فى طريقه بشرًا كثيرين وأشياء كثيرة. ولا يفوتنا التذكير بأنّ التنازع السنّيّ – الشيعيّ فى بلاد الرافدين، والذى يقيم قريبًا من كردستان العراقيّة فى الشمال، ويجاور الالتهاب السوريّ المتعاظم، غير بعيد عن الاستعدادات الخصبة والمتضاربة لدى الإيرانيّين والأتراك والخليجيّين فى وقت واحد.
وأسوأ ممّا عداه أنّ الشيعيّة السياسيّة العراقيّة تحاول اليوم أن تفتدى بنفسها مشروعًا غير عراقيّ، على رغم قيامه على شراكة مذهبيّة مع شيعة العراق، وأنّ السنّيّة السياسيّة العراقيّة، المهجوسة باستعادة زمن انقضى، قد تبثّ فى «الربيع العربيّ» قدرًا متضخّمًا من الوعى الرجعيّ والماضويّ.
نقلًا عن الحياة اللندنية.
