رئيس التحرير
عصام كامل

تخدير العقل

18 حجم الخط

كان الإمام يتحدث بصوته المختلط بالأنين والذى يدعوك للبكاء على الابتلاء ولكنه ترك الابتلاء بالمصائب الفردية وذكر أن من مصائب الدنيا عدم الصبر على الابتلاء حتى أنه تعجب من الذين يغضبون من ارتفاع الأسعار ثم يحتجون، ثم استطرد قائلا بأن الغلاء والفقر بسبب البعد عن طاعة الله.


وهنا يظل الرجل الفقير الذى لا يجد قوت يومه ويرى الأسعار فى ازدياد كل يوم بين معضلتين، الأولى إما أن يعترض ويحتج ويرتفع صوته ويطلب الطعام لأولاده ويتحمل عاقبة نقص الإيمان وأنه فشل فى اختبار السماء، أو أنه يصمت وينتظر صبرا على الابتلاء حتى يرى أولاده يموتون جوعا.

وبالتالى تظل الحكومات فى سياستها الرأسمالية التى تخدم رجال الأعمال وتصب جام غضبها على الفقير، فما الداعى من وراء ذلك سوى تخدير العقل واستغلال العوز وممارسة إلقاء اللوم على الضحية دائما بأن فقرها نتيجة عدم التقرب إلى الله.. وهنا تظل الضحية تعانى وتجاهد فى التقرب إلى الله، ورجال السلطة يجاهدون أيضا فى نشر الفكرة ليبعدوا عنهم الألسنة ويظلوا هم القائلون باسم الله فى الأرض أمام القاصى والدانى يأمرون بالمعروف (الصبر على الابتلاء) وينهون عن المنكر (الاعتراض أو الاحتجاج)

فإذا كنا نحيا هذه الدنيا من أجل الآخرة فما المانع أن نحيا بشرف ونطالب بحقوقنا (التى جعلوها حلما) ولا نستسلم للتخدير المتعمد الذى يصرون عليه من أجل تسكين الغضبة التى تعقب البطون الخاوية، فيرضخ للحاكمين ويتنازل عنها منتظرا الجزاء فى الآخرة.

مثل هذا الخطيب قد لا يقصد المعنى الذى ذكرته وكل ما قصده هو المغالاة قليلا فى طاعة الله فيصبر على الابتلاء (الغلاء كما فى المثال المذكور) أو أن من كثرة المعاصى ابتلانا الله بالفقر، لكن لهذه الأفكار غرض سياسى لا يمكن تناسيه أو تجاهله فهو فى خدمة الحاكم، فيظل دعما لبقائه وتعميقا لجذور حكمه وتأكيدا على تبرئته من أية ملامة تتشبث فى أعقابه أنه المسئول عن إفقار الناس وإخلاء سبيله من أية تهمه قد تنغص حياته، وتظل الضحية هى من تتحمل اللوم والجوع، وإذا تكلم ألقوا عليه باللوم أنه ناقص الإيمان لم يصبر على الابتلاء وإذا اعترض أكثر أصبح يحاجج الله فى قضائه حتى أنهم قد يقتلونه كى لا يتفشى الوباء بين الرعية ومن يتحدث سيذكرون أنه قضاء الله ولا راد لقضائه فتحول التخدير بالتدريج من مقاومة الاعتراض على الغلاء إلى مقاومة الاعتراض على الحاكم حتى جعلوها اعتراضا على الله ومن ثم لا سبيل أمامك سوى السكوت وفوق كل هذا من ينظر من بعيد إلى كلام الخطيب وحال المستمعين قد يظن من الوهلة الأولى أن الخطيب يلقى باللوم على الله ليبرئ الإمام فكأن الله هو المسئول عن إفقار الناس – حاشا لله – وكأنه هو المسئول عن السياسات التى أدت إلى الغلاء أو أنه – حاشا لله – سعيد بإذلال عباده، فاحترموا عقولنا وكفوا عن آذاننا.
الجريدة الرسمية