الأزهر وإعادة تحقيق التراث الإسلامي.. مشروع قومي (2)
محمد بن إسماعيل البخاري، رجل واحد، لم يمتد به العمر طويلا، حقق كل تلك الإنجازات التي لا يزال العالم يقف مشدوها إزاءها، فهل نعجز نحن عن إنجاز مثل هذا المشروع؟!
تحدثنا في المقال السابق عن واقعة شديدة الغرابة حدثت مع البخاري، تمثلت في خوفه الشديد من العلماء المتشددين، الذين كان يتوقع أن يرموه بالضلال إن أبدى رأيا مخالفا في أحد الأحاديث.
وهذه تفاصيل الحادث المشهور: قال الحافظ الثقة الإمام أَبُو حَامِد أحمد بن حمدون الْأَعْمَشي: كُنَّا عِنْد مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ بنيسابور، فجَاء مُسلم بن الْحجَّاج، فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث عبيد الله بن عمر عَن أبي الزبير عَن جَابر:
بعثنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سَرِيَّة ومعنا أَبُو عُبَيْدَة (…)، فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنْسَان حَدِيث حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريح عَن مُوسَى بن عقبَة نَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: “كَفَّارَة الْمجْلس واللغو إِذا قَامَ العَبْد أَن يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك”، فَقَالَ لَهُ مُسلم: فِي الدُّنْيَا أحسن من هَذَا الحَدِيث؟ ابْن جريح عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سُهَيْل يعرف بِهَذَا الْإِسْنَاد حَدِيث فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: إِلَّا أَنه مَعْلُول.
قَالَ مُسلم: لَا إِلَه إِلَّا الله، وارتعد، أَخْبرنِي بِهِ.
قَالَ البخاري: اسْتُرْ مَا ستر الله، هَذَا حَدِيث جليل رُوِيَ عَن الْحجَّاج عَن ابْن جريح.
فألح عَلَيْهِ وَقبل رَأسه، وَكَاد أَن يبكي، فَقَالَ: اكْتُبْ إِن كَانَ وَلَابُدّ: نَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل نَا وهيب نَا مُوسَى بن عقبَة عَن عون بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَفَّارَة الْمجْلس. فَقَالَ مُسلم: لَا يبغضك إِلَّا حَاسِد، وَأشْهد أَن لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثلك.
هذه قصة صحيحة رواها الحاكم في "معرفة علوم الحديث"، و"تاريخ نيسابور"، وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد"، والخطيب في تاريخ بغداد، والسمعاني في أدب الإملاء، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن رشيد السبتي في السنن الأبين، وابن حجر في مقدمة فتح الباري. وذكر ذلك مترجمو البخاري، والمصنفون في علوم الحديث قديما وحديثا.
وقول مسلم في آخر القصة: "لا يبغضك إلا حاسد" إشارة صريحة إلى الإرهاب الذي أخاف البخاري من قبل العلماء المتشددين.
هذا الحديث الذي ضعَّفه البخاري، ورجَّح أنه منقطع الإسناد من رواية عون بن عبد الله التابعي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مباشرة، واعترف مسلم برأي شيخه، مروي من طريق سهيل بن أبي صالح المتفرد برواية "الحديث"، وخطأ سهيل في وصل حديث الكفَّارة عن أبي هريرة هو حجة البخاري في عدم احتجاجه بسهيل، وتجنب تخريج أحاديثه في الصحيح.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ في "أحكام القرآن": أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ، حَمَلَهُ سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ؛ فَهَذِهِ مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ.
وبإمعان التفكير في متن حديث عدم مبادرة أهل الكتاب إلى السلام، والتضييق عليهم في الطرقات، نضع أيدينا على أصل من أصول التطرف في تراثنا الفقهي، فقد استنبط منه بعض علمائنا أن المسلم مطالب شرعا باحتقار أهل الكتاب والتضييق عليهم، عقابا معنويا على كفرهم.
ومن أعاجيب التفاسير التي أبدع من نعدهم مفكرين إسلاميين، في وضعها، ما يلي: قال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيتم أحدهم فى طريق فاضطروه إلى أضيقه"، قال أصحابنا: لايُترك للذمي صدر الطريق، بل يضطر إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلاحرج، قالوا: وليكن التضييق بحيث لا يقع فى وهدة ولا يصدمه جدار ونحوه.
وقال القرافي في "الذخيرة": النَّوْعُ الثَّالِثُ: يُمْنَعُونَ مِنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ وَيُضْطَرُّونَ إِلَى الْمَضِيقِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ خَالِيًا لِمَا يُرْوَى عَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لَا تبدأوهم بِالسَّلَامِ وألجئوهم إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ".
وفي تفسير ابن كثير: لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلِّاء صَغَرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".
وفي "التيسير" للمناوي: "لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام"؛ لأن السلام إعزاز، ولا يجوز إعزازهم، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية. "وإذا لقيتم أحدهم في طريق" – فيه زحمة – "فاضطروه الى أضيقه"، بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه نحو جدار، أي لا تتركوا له صدر الطريق.
