رئيس التحرير
عصام كامل

كيف نستعيد روح أكتوبر لعبور الأزمات؟!

لا تملك دولة شرق أوسطية تراثا عظيما كالذي تملكه مصر، ولا نصرا مجيدا كنصر أكتوبر المجيد.. ورغم ذلك فمن يراجع حالتنا الراهنة يجد عجبا.. فأين ذهبت روح أكتوبر.. كيف تحولنا من حالة إيجابية صنعت المستحيل إلى حالة سلبية تعانى أمراضا اجتماعية، كتراجع الأخلاق وضعف الإرادة وشيوع السلبية والأنامالية والخرافة والتواكل والاستهلاك النهم ومجافاة العلم والكفاح والنضال..


مع تجدد ذكرى أكتوبر جدير بنا أن نقف مع النفس وقفة مراجعة وحساب نستخلص منها الدروس والعبر، ونجيب عن أسئلة الوقت بصورة موضوعية فمثل هذه الإجابة إن صدقت وأصابت التشخيص والعلاج ستكون مفتاحًا وبداية  للخروج من أزماتنا والعودة بالشخصية المصرية لعطائها الحضاري وإسهامها المتميز في مسيرة الحضارة العالمية. 

Advertisements

قالوا عن حرب أكتوبر


وعلينا ونحن نسترجع ذكريات نصر أكتوبر المجيد أن نستحضر مشهد النصر حيًا طازجًا قبل أن تعكر ملامحه ثغرة الدفرسوار وما جرى بعدها.. ويكفينا هنا أن نستحضر مثلًا عبارات جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وقتها والتي قالت: "سأظل أحيا بهذا الحلم المزعج لبقية حياتى، ولن أعود الإنسانة نفسها مرة أخرى التى كانت قبل الحرب.. وليت الأمر اقتصر على أننا لم نتلق إنذارا فى الوقت المناسب، بل إننا كنا نحارب على جبهتين فى وقت واحد، ونقاتل أعداء كانوا يعدون أنفسهم للهجوم علينا من سنين".


صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية اعترفت بعظمة جيشنا قائلة: "إن الدفاع الجوى المصرى المضاد للطائرات يتمتع بقوة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الحروب، وتفوق تلك التى واجهها الأمريكيون فى فيتنام، مشيرة إلى أنه قد حدثت إساءة تقدير كبيرة من جانب الإسرائيليين بالنسبة لفعالية الدفاعات المصرية وقدرة المصريين على عبور القناة".


أما موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى أيامها فقد قال "إن حرب أكتوبر كانت بمنزلة زلزال تعرضت له إسرائيل، ولم نملك القوة الكافية لإعادة المصريين للخلف مرة أخرى، فقد استخدم المصريون الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات بدقة شديدة".


بينما قال حاييم هيرتزوج رئيس دولة إسرائيل الأسبق: "لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر، وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم، لقد كانوا صبورين كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تماما حتى بدأ العالم الخارجى يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم".

دروس التاريخ


التاريخ ليس معناه الانغلاق على الماضي بل إنه قراءة واعية لما مضى بقصد استخلاص العبر والدروس واستلهام الحكمة.. وتلك القراءة بمثابة مفتاح للمستقبل فمن ليس له ماضٍ فلا حاضر له ولا مستقبل؛ فالشخصية المصرية تنطوى على حكمة تاريخية فهي ليست قالبا جامدا ولا نمطيًا بل إنها  تملك سمات حضارية ونفسية غريزية لا تتغير ولا تنال منها رياح الزمان. 

 

بل إنها -فى التحليل العلمى الدقيق- تعد انعكاسا لنمط تفاعلات المجتمع مع محيطه مضافا إليها بعد أساسى ومهم هو البعد الحضارى، الذى يمتد في الزمان بصورة تجعلها تستعصي كثيرا على التحليل، فهى شخصية يمكنها أن تصنع  بمعجزات في وقت يظن الجميع أن الموت يسكنها.


أهم دروس التاريخ أن للشعب المصري إرادة لا تمـــوت بل إنه يسترد  شـــبابه وحيويته، فيحطم قيود الانكسار ويعود مجددا ليقف صامدًا فى شموخ تحت راية الوطن محققًا النصر والعزة في أحلك الظروف..ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا جديد في هذا فالمصريون يصنعون التاريخ دائمًا.


إرادة المصريين وتماسكهم كانت مقدمة ضرورية ولازمة لإحراز أعظم نصر عسكري في العصر الحديث وهو نصر أكتوبر العظيم الذي تحقق بفضل معجزة فنية وعسكرية سطرها المقاتل المصري ليعبر قناة السويس ويحطم خط بارليف الذى صورته إسرائيل ووسائل الإعلام الدولية بأنه حصن منيع يستحيل تجاوزه.


لم يكن هذا النصر مجرد استعادة للأرض بل كان إعادة صياغة  للشخصية المصرية واستعادة الكرامة الوطنية الجريحة.


لقد جاء الأداء البطولى لقواتنا المسلحة ليؤكد  للعالم أجمع  أن الجندى المصري خير أجناد الأرض، وما كان النصر ليتحقق لولا التخطيط العلمى الدقيق للقيادة الرائعة صاحبة قرار الحرب والسلام وهو الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. 

 

وقد نجحت قواتنا المسلحة فى الأيام الأولى للمعركة أن تحقق هدفا استراتيجيا لا يختلف عليه أحد وهو كسر النظرية الأمنية الإسرائيلية، وكسر الغطرسة الإسرائيلية وأسطورة الجيش الذي لا يقهر،  ليتأكد لنا صدق العبقرية المصرية التي جسدها المفكر الرائع جمال حمدان صاحب موسوعة شخصية مصر بقوله الخالد: 

 

"والذى نراه هو أننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد، من حيث السمات والقسمات التى تجتمع فيها، فكثير من هذه السمات تشترك فيه مصر مع هذه البلاد أو تلك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقا فريدا فذا، فهى بطريقة ما تكاد تنتمى إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماما..

 

وبهذا فإنها تكاد تأخذ من كل طرف تقريبا بطرف، أى تأخذ بالحد الأدنى -على الأقل كميا- من الحد الأقصى من الحالات والسمات، بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطى، تجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبى، ولعل فى هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على مر العصور".


حرب أكتوبر أثبتت أن الحق لا يضيع بالتقادم، وأن عزيمة المصريين لا يفت في عضدها الشدائد متى آمنوا بحقهم وتهيأت لهم الظروف لاسترداده.. فلا تنقصهم القوة ولا القدرة على مسايرة مستجدات العصر، فهم يملكون المقدرة على تطوير قدراتهم بسرعة مذهلة في أحلك ساعات الشدة وأكثرها إظلامًا متى توفرت لهم الظروف المناسبة.


من دروس أكتوبر نسجل هنا أن صحافتنا وإعلامنا كان لهما دور فعّال ومشرف في صناعة النصر العظيم، فهما لم يكتفيا برصد وتسجيل مشاهد الحرب وتفاصيل المعارك وبطولات جيشنا العظيم بل لعبا دورًا مؤثرًا في التمويه والخداع الاستراتيجي الذي انتهجته القيادة السياسية وقتها لتضليل العدو وأعوانه، عبر خطاب مزدوج نجح باقتدار في مخاطبة الخارج بلغة مطمئنة لا تشي بأن ثمة حربًا سيشعلها المصريون ويجنون حصادها نصرًا مؤزرًا.. 

روح أكتوبر

وهو ما انطلى على أعتى أجهزة المخابرات العالمية وأوحى وقتها لإسرائيل بأن مصر مستكينة ليس بوسعها  تغيير المعادلة القائمة بأي صورة.. وبالتوازي نجح الإعلام في مخاطبة الداخل بلغة مغايرة تمامًا، تبث الأمل في الغد وهو ما خلق وعيًا حقيقيًا في جبهتنا الداخلية التي اكتملت لها مقومات العبور العظيم الذى كان إعلامنا رأس الحربة في معاركه..

 

فقد مهد الأرض أمام جنودنا عبر صناعة رأي عام ناضج مساند داعم لجيشه وقيادته.. إعلامنا ارتقى وقتها أعلى درجات المهنية والكفاءة والاستنارة والوطنية، فنال احترام الناس، وحفر مصداقيته في الذاكرة القومية بأحرف من نور..

 

 

تُرى ماذا بقى من حرب أكتوبر.. وهل حافظ إعلامنا وصحافتنا على تلك الروح في أداء رسالته بالتنوير وإبقاء الروح الوطنية متقدة جاهزة دائمًا لمواجهة التحديات على قلب رجل واحد..هل احتفظ بريادته ومصداقيته أم أنه في حاجة لإعادة نظر؟! ويبقى السؤال الأهم: كيف نستعيد روح أكتوبر ونحن نستقبل أهم حدث سياسي لاختيار رئيس مصر.. كيف نتحلى بالوعى والمشاركة الإيجابية لنقرر مصيرنا بإرادة حرة دون وصاية من أحد؟!

الجريدة الرسمية