رئيس التحرير
عصام كامل

الإنسان بين خوف أبو الحسن وجثث عبيد

على مدار عشرة رسائل لابنته، وبقلم رشيق، استطاع المبدع جمال أبو الحسن، أن يلخص قصة الإنسان على مدار 300 ألف عام مضت، في محاولة فريدة لتبسيط رحلة الأجداد في فهم الحياة وشفراتها واستكشاف العلوم وكيفية التعامل معًا لبناء الحضارات وصولًا لما نحن عليه الآن.

 

بيد أن هناك من صاحب الإنسان على مدار هذه الأعوام وهو الخوف، ذلك الشعور المميز عن باقي المشاعر بالديمومة، فكافة المشاعر مؤقتة أو لحظية بينما هو الوحيد المستمر منذ الميلاد وحتى انقضاء اخر أسبابه وهو الفناء، لتكتشف أن الخوف هو وقود رحلة الانسان ومحركها.. 

Advertisements

 

وأن الانسان ذاته هو ما تدور حوله هذه الحياة، فالأسئلة التي تدور في وعي كل انسان منذ إدراكه وشكلت محور أفكار وكتابات الأدباء والفلاسفة، بل وكانت دافع العلماء في النهم من العلم لاستخلاص الإجابة علي: من وإلى أين؟ ولماذا وكيف؟ وكانت الإجابة في الانسان هو ذاته ما يدور حوله ولأجله كل هذا.

 

وعلى مدار تلك الرسائل التي تعمد جمال أبو الحسن أن تبدأ خلال فترة خضوع ابنته للعزل إبان انتشار فيروس كورونا، حيث تتحفز مشاعر الخوف لدى الانسان خلال الوحدة والعزل وتطمئن في الجماعة، أبحر بأبنته في أعماق التاريخ الإنساني ليكشف لها عن كيف بدء البشر رحلتهم، وكيف اكتشفوا الطاقة والفضاء الخارجي، ولماذا عبدوها، وكيف استطعنا تقليل خوفنا من بعضنا البعض للوصول للإطمئنان.. 

 

وكيف كانت الجماعة والتضامن سر الاستمرار والتطور، وحينما انتهت فترة العزل ومن ثما ستعود الي البشر والمجتمع كانت الرسالة العاشرة تحمل بعض الرؤي والتفاسير المتفائلة من خلال النظريات والمدارس الفلسفية والدينية التي لم تتسم بالتعقيد في محاولة لتخفيف مشاعر الخوف.

 

بيد أنه لا مناص من الخوف والقلق طالما أننا نحيا على هذه الأرض. والخوف ليس بالشعور المذموم أو الرزيل، بل على العكس فالفضيلة وسط بين رزيلتين فالخوف فضيلة بين الجبن والتهور، فالخوف الذي يجعل الانسان يفترض احتمالات والاحتمالات تدفعه للعمل لتجنب الأسوأ وتحقيق المناسب لذلك فالخوف هو صديق الانسان ووقود مسيرته.

الجرائم واكتشاف المجتمعات

وانطلاقا من ذات الرؤية لم تكن مذكرات سيدني سميث كبير الأطباء الشرعيين في مصر الملكية وأستاذ التشريح التي نقلها مصطفي عبيد بأسلوب أدبي وقصصي رائع فهي ليست ترجمة أو تعريب بل هي نص أدبي بامتياز، لم تكن مذكرات مهنية تبرز نبوغه وتفوقه في مجال الطب الشرعي من خلال تفسير الجريمة وتصورها فحسب، بل شملت هذه المذكرات تطبيق عملي على فرد من جماعة البشر التي تحدث عنها جمال أبو الحسن في كتابه.

 

فسيدنى سميث الذى تنقل بين أيرلندا وأسكتلندا وأستراليا وسيلان ومصر ونبغ في العلم كان لديه ذات الفضول لاكتشاف مثلما كان للأجداد على مدار 300 ألف، ولكن كان فضوله لاكتشاف ما وراء الجثث. فأبحر في اكتشاف المجتمعات من خلال جرائمها فقام بتشريح المجتمع مع الجثث كونها أحد دوافع الجريمة، وفى جوهرها الأنسان القاتل أو المقتول ودوافعه وعلى رأسها الخوف، على السمعة في جرائم الشرف، الوطن في الاغتيالات السياسية، الفقر، الحب، الكره.. إلخ.

 

كما ظهرت السياسة والاقتصاد كجزءً رئيسيا حاضرا بين الكتابين فطوال حياة الانسان عند ابو الحسن في محاولة اكتشافه يبدأ بالبحث عن الرزق ثمتظهر التجارة ومن ثم نشأه نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية ولكل منهما شفرة، ففرد ابو الحسن الرسالة التاسعة والتي تختلف في الصياغة والكم عن باقيالرسائل للنظم السياسية وتطورها وتأثيراتها الاقتصادية.. 

 

بينما ظل سيدني سميث طوال فصول مذكراته يشير إلي الأوضاع السياسية والاقتصادية كدوافع للجريمة وعلي احوال المجتمع ليظهر لك أثر الخوف المقترن بالفقر تارة وبالوصم المجتمعي مرة أخري وبالنظام السياسي وأثره على المجتمع مرات، كأحد الدوافع الرئيسية للجريمة..

 

بما فيها تجربته في ممارسته التجارة في محاولته لاستغلال نقص محصول الفول وقد تبين حينها وجود مافيا لكل سلعة وخدمة ليس من اليسير التشارك معهم، على الرغم من أشادته بنزاهة أخلاقية وفقًا لوصف مصطفي عبيد بالمجتمع المصري، ذلك المجتمع المُستعمر من إنجلترا ومن الفقر أيضًا ولكنه يحتفظ بطيبة وحسن تعايش مع الغير.

 

يعبر الكاتبان عن غريزة البحث والفضول لدي الانسان بحث الانسان عن الأمان وفضوله كدافع للاكتشاف، وبحث طبيب التشريح عن الدوافع وما وراءالأجساد وفضوله في اكتشاف الحقيقة، فبين الرؤية العامة للإنسان عند جمال ابو الحسن وتخصيصها على مجتمعات معينة عند مصطفي عبيد ينجلي أمامك ضعف الانسان وهو انه "إذا كانت حتمية الموت قد دفعت الغريب نحو الانزواء واللامبالاة وفقدان الرغبة في العيش، فإنه سيكون الحافز نحو تجاوز الأنانية الضيقة التي كان عليها البشر قبل استفحال الوباء، وبلوغ التضامن الضروري لتحقيق الخلاص للجنس الإنساني من مصير الفناء" ألبير كامو.

 

يبدو لك أن سيدني سميث رجل واسع العلم بحكم شغفه وعمله وهو ما جعله أحد مؤسسي نظريات الطب الشرعي على مستوي العالم والتي يدين بالفضل في ذلك لمصر والتي وفرت له الفرصة للممارسة العملية التي مكنته من ذلك وفقًا لظروفها السياسية والاجتماعية آنذاك..

 

وكذلك يدهشك جمال أبو الحسن من كافة العلوم التي يدركها ففي رحلة الخوف يسردلك العديد من المعلومات في كافة العلوم بما فيها المتخصصة ليأكدعلى العلاقة الطردية بين التوسع في العلم والمعرفة والخوف، أو كما قال المتنبي "ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِوَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ".

احذر أن يدفعك الخوف لتكون جبانًا فتُقتل أو متهورا فتصبح قاتل، وفي كلتا الحالتين ستقع تحت يدي سيدني سميث.

الجريدة الرسمية