رئيس التحرير
عصام كامل

عزيزي لا تكن مغفلا

كان يرتدي بنطالا وقميصا مثل سائر الناس، استوقفني وأنا أشاهد أحد عروض المحلات: "سامحنى يا اخويا بقالى يومين ما كلتش عايز أى حاجة آكل بيها"، أخرجت من جيبي خمسة جنيهات وهممت بإعطائها له إذ إن هيئته تدل على أنه فعلا ربما يمر بضائقة وقتية ويحتاج إلى الطعام، لكنه فاجأني ونظر إلى بضجر، قائلا: "خمسة جنيه إيه؟ بقولك عايز آكل وأركب ميكروباص تدينى خمسة!". صعقتنى الدهشة والمفاجأة، ورددت الخمسة جنيهات إلى جيبي، قائلا له بنبرة حادة:"انت بتتقنزح كمان امشي من هنا".

 

مشهد متكرر في وسائل المواصلات العامة، تصعد سيدة تغطى وجهها، تبكى بحرقة: "ساعدونى يا اخواتى، أنا جيت لكم وماليش إلا ربنا وأنتم ويعلم ربنا دى أول مرة أمد إيدي، أنا بنتي عندها بفشل كلوى وفاضل على أجرة الغسيل 70 جنيه، هالمهم وأروح لها المستشفى".

ويصدق الناس الحكاية، ويتسابقون لمساعدة السيدة التى تكاد تنهار من البكاء المصطنع، ويعطى كل منهم ما تسمح به ظروفه، ثم تنزل السيدة من العربة لتستقل أخرى في تكرار للمشهد والسيناريو، مع بحور الدموع المصطنعة التي لا تجف.

أشكال مختلفة للتسول

 

مشهد آخر، تصعد إلى المواصلات، تصطحب طفلا صغيرا لا يتجاوز السادسة من عمره، تبدو عليه ملامح الإهمال والتردي الشديد، ويبدو أن تلك الهيئة هى المطلوبة لاستدرار عطف الناس، تنادى: "بنتي محجوزة فى المستشفى، وعندها جلسة، الحمد لله أنا مش محتاجة حاجة إلا علبة كمامات بس وبلم 25 جنيه عشان أشترى لها واحدة".

نعم قالت علبة كمامات، علما بأن الصغير لا يرتدي أى نوع من أنواع الوقاية من فيروس كورونا المستجد، وفرضا لو كانت صادقة فيما تقول وكانت صغيرتها تعالج كيميائيا وتحتاج إلى الكمامات لأغراض الحماية، فلا أظن أن اللجوء إلى المواصلات العامة هو الحل الأقرب.

 

ويتسابق الطيبون كالمعتاد بعد تصديق الحكاية، تجمع السيدة وفق اعتقادي ومتابعتي راحة يدها، ما يقرب من الخمسة وعشرين جنيها إن لم يكن أكثر، تجلس لتستريح على أحد كراسي العربة، تنادى على بائع متجول للشيكولاتة، تفتح قبضة يديها، تخرج من بينها عشرة جنيهات، تعطيها للبائع، وهو يردف:"خلاص خلي يا أم هانى"، إلا أنها تصر على إعطائه حقه، وتجلس لتناول الشيكولاتة فى نهم شديد، غير عابئة بنظرات الجالسين، الذين تكاد قلوبهم تخرج من صدورهم غيظا وكمدا، فالبائع يعرف أم هانى جيدا.

 

مشهد آخر لأحد المتسولين المتجولين، يتعمد الصعود إلى المواصلات، مارا بين الركاب، كاشفا عن ساق ممتلئة بالقيح والصديد، فضلا عن الرائحة الكريهة النفاذة المنبعثة منها، أو التى قد يكون اصطنعها لها، من أجل جلب استعطاف الناس، يتجول فى العربة ذهابا وإيابا، مثيرا غثيان الجميع، حتى أن إحدى الفتيات كادت تسقط مغشيا عليها جراء تلك الرائحة الكريهة. ولا أتصور تماما أن مصابا بهذا الكم من القيح والصديد، يتجول فى وسائل مواصلات باحثا عن علاجه، طوال اليوم وعلى فترات مختلفة منه، وعلى مدار أيام بل شهور متكررة.

 

مشهد آخر منذ سنوات لأحد المتسولين المعروفين فى منطقتى، وقد كنت أشاهده يوميا، حين رأيته يقف إلى أحد الجوانب في الشارع، متحدثا فى هاتفه المحمول، قائلا بنبرة صوت عالية متحديا المارة بلا خجل:" نزل لى عربية رمل عند البيت ومعاها 2 طن أسمنت ولما أرجع هاحاسبك".

إعمال العقل

 

أولا وقبل كل شيء، كفانا الله جميعا وأسرنا شر الحاجة وسؤال الناس، وهو الدعاء المتواصل على لساني "اللهم لا تلجأنى إلى أحد ولا تحوجني إلا إليك"، ولكن قبل أن تعط كل صاحب رواية كاذبة اسأل نفسك أولا، هل إذا مررت أنت شخصيا بظرف طارئ عصيب مثل تلك الحكايات، ستسارع إلى خلع ستار الحياء، وتنزل إلى المواصلات العامة وتسأل الناس فى جرأة شديدة، قد تحتاج إلى تدريب وممارسة تستمر أشهر، أم ستحاول التصرف من خلال دائرة معارفك وأصدقائك أولا؟.

 

هناك العديد من الحالات التى تستحق العطاء والمساعدة، وهؤلاء فعليا لا يسألون أحدا ولا يطلبون من أحد، يطبقون النص القرآني الكريم، إذ يقول رب العزة سبحانه فى محكم آيات التنزيل بسورة البقرة، بسم الله الرحمن الرحيم (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)). وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف".

 

 

دعوة لإعمال العقل فى أى سيناريو تسول يقدم لك، تسارع به إلى إخراج المال من جيبك، لإعطاء آخرين يبنون منها بيوتا، ويتربحون منها الألوف يوميا، نعم اعط ولكن من يستحق ومن خلال جهات موثوق بها، أو من الدائرة المقربة إليك التى تعلم حالها جيدا وتدرك ما بها من احتياج وعوز، فالتسول والاستجداء بات مهنة شديدة الربح لأصحابها، ولها عصابات ومناطق نفوذ منظمة، ولكي نحارب تلك الظاهرة المقززة:"أرجوك لا تكن مغفلا". 

الجريدة الرسمية