رئيس التحرير
عصام كامل

سلسلة ما وراء التسريحة (1)

تجربة رقم 10312، الآن سأفتح عيني وأنظر جانبي لعلي هذه المرة لا أجدها إلى جواري على السرير، فمنذ أكثر من أربع سنوات وأنا أستيقظ كل يوم على أمل أن يكون زواجي من حسنات –وهذا اسمها فقط– مجرد حلم، أو لنقل كابوس ليكون الوصف أدق.


للأسف، فشلت التجربة، زواجي من حسنات أمر واقع فرضته علي أمي، قبل نحو ثلاثين عاما، حين ولدتني في اليوم ذاته واللحظة نفسها، التي غادرت فيها حسنات رحم خالتي كاميليا لتبدأ رحلة معاناتي.

قد تسأل وهل تلد كاميليا حسنات.. وأقول لك أن زوجتي سميت على اسم جدتي لأمي، كما سميت أنا على اسم جدي لأمي أيضا.. بخيت. لا أحد منا له نصيب من اسمه، فأنا بخيت بينما البخت والحظ إذ وجدني في طريق حتما سيأخذ طريقا آخر، وكذلك حسنات لا تعرف من الحسنات سوى تلك العلامات السوداء التي تنقط وجهها.

أبناء نوح

تخيل معي، كل يوم أستيقظ لأرى مخلوقا يشبهني تماما، ليس بيننا أي اختلاف سوى الشنب، ملحوظة ليس لدي شنب، فحسنات هي من تربي شاربها، كعادة نساء عائلتنا، حيث هن المسيطرات، ويتعمدن تربية الشوارب من أجل تذكير الرجل دوما بأنه قد أتى الدنيا لخدمتهن وللمساعدة في إنجاب الأطفال ليس أكثر.

قبل ثلاثين عاما، وحين ولدنا أنا وحسنات، اتفقت والدتي ووالدتها على أن نتزوج حين نكبر، وقرأتا الفاتحة على ذلك، ثم ألبستني أمي حفاضة سوداء، وألبست خالتي كاميليا وليدتها حسنات حفاضة بيضاء، وهكذا تم زفافنا ونحن –حرفيا– في اللفة.

الآن سأذهب إلى الحمام لأستعد للنزول للعمل، لكن لا مانع من أن أقف دقيقة حداد – أمام مرآة التسريحة لأطالع وجهي، وأرى أثر التغير الذي أحدثته حسنات في.

رجل ثلاثيني، بلا شارب، تملأ التجاعيد وجهه، تخرج في كلية العلوم ثم آل به الحال ليكون عاملا بمشرحة أحد المستشفيات الحكومية في العاصمة. قطعا لم أبدأ حياتي كعامل في مشرحة وأنا الذي درست في كلية العلوم وذقت الأمرين، لكنه أستاذي ومعلمي سامحه الله.. الدكتور فرغلي عالم الكيمياء المشهور، والذي اختفى قبل نحو ثلاثة أعوام في ظروف غامضة، فضاع وضعت معه وضاع حلم المشروع العلمي الفذ الذي كنا قد قطعنا شوطا كبيرا فيه، بل كان على وشك التمام والكمال.

ذلك المشروع الذي كان سيغير وجه الكون، وهو خاص بتكنولوجيا حيوية يمكنها أن تساعد في انكماش حجم البشر، ليصبح الرجل منا في حجم عقل الإصبع تماما، مثلما كنا نطالع في صغرنا تلك القصة الخيالية.

انتظروا فقد سقطت سلسلة مفاتيحي خلف التسريحة، يبدو أنه يوم «مش فايت»، فالسلسلة تحوي مفاتيح سيارتي الخنفساء المتهالكة، التي أسميتها "الخنفسا"، وكذلك مفاتيح المشرحة.. ترى ما العمل.. ماذا سأقول لرجب كبير العاملين بالمشرحة، ما هذا النحس؟!

كلما اشتقت إلى صوت أمي

نعم، سأحضر عصا الممسحة من الحمام، وأحاول أن التقط بها سلسلة المفاتيح، رغم أنني أعرف أن ذلك حتما سيفشل كما فشلت من قبل في استعادة كل الأشياء التي فقدتها في هذا المكان العجيب.. وراء التسريحة.

هذه بقعة غاية في الغرابة، تشبه مثلث برمودا الشهير، فلا شيء يختفي وراء التسريحة ويعود مرة أخرى.. ألم أقل لكم إنه يوم «مش فايت»، بالفعل فشلت في استعادة سلسلة المفاتيح، وعلى أن أذهب إلى المشرحة الآن للبحث عن حل.

من حسن حظي في هذا اليوم الكئيب أن حسنات لم تستيقظ بعد، وهذا يعني أنني لن استمع لذلك الموشح الأندلسي، الذي تنشده هي على مسامعي يوميا، فالأمس مثلا جلست لنصف ساعة تعطيني محاضرة في فن النظافة والنظام، كل ذلك لأنه وجدت شيئا «مكلكعا» في جيب البيجاما السكروتة التي ألبسها في البيت – ولا غيرها – منذ تزوجنا، بل إن هذه البيجاما «الأوول سايز» ترافقني منذ كنت في المرحلة الإعدادية، وكنت وقتها أكتفي بارتداء البنطلون فقط إذا كان يمكنني أن أرفعه ليغطي المنطقة من صوابع رجلي إلى رقبتي.

أما العمارة التي أسكن بها وقفت محاولا فتح السيارة «الخنفسا» كي أديرها بتوصيل الأسلاك أسفل الدريكسيون، غير أن حظي العسر ساق إلى أمين شرطة كان يمر مصادفة بالجوار، فألقى علي القبض متهما إياي بمحاولة سرقة السيارة، فرحت أحلف له بشرف خالتي كاميليا إنها ملكي لكنه لم يصدقني، وفي حينها خرج جارنا الأستاذ فريد نحنوح المحامي، فاستنجدت به، وحين سأله أمين الشرطة إن كان سيشهد بأنني مالك السيارة تظاهر بأنه لا يعرفني، وطلب منه أن يصطحبني لقسم الشرطة إلى أن يبان لي صاحب.

كانت السبة على طرف لساني، غير أنني تماسكت وتبسمت في وجه نحنوح، فقد فعل ذلك هو تخليصا للحق، إذ إنني قبل أسبوع رفضت أن أشهد زورا في قضية متهم فيها أحد موكليه، ويبدو أنه لم ينس الأمر لي.

- أستاذ نحنوح، دقق جيدا في وجهي أنا بخيت جارك، بخيت الذي سوف يشهد في صالح موكلك الشريف عاد عسران تاجر المخدرات الشهير.. أقصد تاجر المخدرات الشهير.

تنحنح نحنوح وغمز بعينيه ثم اقترب مني وهمس في أذني:

- طب احلف وسوف أخبر الأمين أنك صاحب السيارة.

- وشرف أختك شوشو سأذهب معك إلى المحكمة وسأشهد بكل ما تمليه علي.

سعل نحنوح ونظر إلى وجهي فبدت على ملامحه الدهشة ثم صاح الشرطي.

- مش معقول، إنه جاري الأستاذ بخيت صاحب هذه السيارة.. عذرا يا أمين.. العتب على النظر.

جبر الخواطر.. قوة

اطلع أمين الشرطة على كارنيه المحامي نحنوح، ثم أفلت ياقة القميص من يديه، وطلب مني ألا أنسى المفاتيح مرة أخرى، فأخبرته أني حتما سأفعل، ثم أستسمحته في أن يساعدني في فتح نافذة السيارة كي يمكنني قيادتها إلى محل عملي، قبل أن يذهب عم رجب كبير العاملين بالمشرحة، ففعل حيث ضغط على الزجاج بيده فأنزله، ثم راح يبرم شاربه كعريس شرف أهله ليلة دخلته.

كنت أود لو أقول لكم إنني وصلت المشرحة في لمح البشر، غير أنني واجهت الصعاب حتى وصلت، ما بين أعطال تصيب "الخنفسا" ورجال مرور دب النشاط فجأة في أوصالهم وأعمى الله بصيرتهم عن كل الناس عداي أنا، فهذا يستوقفني للسؤال عن الرخصة، وذلك يحرر لي مخالف عدم ارتداء الحزم، رغم أن سيارتي بحمالات.. وهذا ليس استظرافا مني فهي بالفعل بها أحزمة من جانبي المقعد تشبه حمالات البنطلون.

وأخيرا وصلت المشرحة، قبل الجميع، لكنني فشلت في فتح الباب بالطفاشة التي استلفتها من عم زكي الحرامي، فهو أشهر من نار على علم كما يقال.. لكن هنا تكمن الحكمة فامتلاكك الطفاشة لا يعني أنك لص.. إنها المهرة يا سادة.

إذا ما العمل، نصف ساعة ويأتي عم رجب ليباشر عمله فى المشرحة، وهو رجل نكدي تماما مثل حسنات زوجتي؟!

ليس أمامي سوى أن أعود إلى البيت سريعا لأحاول استعادة سلسلة المفاتيح من وراء التسريحة، فهل أنجح.. ذلك ما سوف أعرفه معكم في الحلقة القادمة.
الجريدة الرسمية