رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد سالم.. الأول دائمًا


لم أكن أعرف أن أول من استهل الإرسال الإذاعي في مصر، منذ نحو 75 عامًا، هو الفنان أحمد سالم، رحمه الله. "هنا الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية.. هنا القاهرة".. كانت هذه الكلمات هي بداية لإطلاق الإذاعة المصرية، وبداية الاستماع لأول مذيع مصري، وعربي، وهو أحمد سالم، الذي عرفه وارتبط به الجمهور العربي والمصري عبر موجات الراديو.


كانت بداية البث في تمام الساعة الخامسة، مساء الخميس 31 مايو 1934، وبها قدم "سالم" أولى الفقرات، وهي "تلاوة للشيخ "محمد رفعت".

ولد أحمد سالم بمركز أبو كبير بمحافظة الشرقية.. والغريب أن دراسته كانت بعيدة تمامًا عن الإذاعة والفن، حيث درس في الثلاثينيات هندسة الطيران، وأصبح وقتها من أوائل المصريين الذين عملوا في هذا المجال.

وكان "سالم" قد سافر إلى إنجلترا لدراسة الهندسة، ولكن الطيران استهواه فدرسه، وعاد إلى القاهرة عام 1931، ولم يكن حينها قد تجاوز الـ21 من عمره، قائدًا طائرته الجديدة، وبالرغم من تعرضه لحوادث كثيرة كادت أن تودي بحياته، فقد عين بمجرد عودته مهندسًا لشركات "أحمد عبود" باشا، ولأنه يملك روحًا متمردة لم يستمر في هذا العمل طويلًا، رغم أن الجميع شهد له بالنجاح الكبير كمهندس.

واستمر صوت "أحمد سالم"، وعبارته الشهيرة "هنا القاهرة"، مرتبطين في أذهان جمهور الإذاعة المصرية، ونجح في حجز مكانه بالإذاعة، بعد توليه مسئولية القسم العربي، إضافة لتقديم فقرات وبرامج وحفلات السهرة لكبار الفنانين وقتها.

وذات يوم ذهب كمذيع إلى حفل أقامه "طلعت حرب" باشا بمناسبة نجاح شركات بنك مصر، وأعجب الاقتصادي الكبير بذكاء المذيع الشاب، وطلب منه أن يتفرغ لإنشاء شركة مصر للتمثيل والسينما، وبناء ستوديو كبير يكون مصريا خالصا.

وبالفعل قدم "أحمد سالم" استقالته، وشرع في بناء ستوديو مصر على نمط حديث، وتولى عملية توظيف الفنيين الأجانب والمصريين. وقدم "سالم" باكورة إنتاج ستوديو مصر فيلم "وداد" لأم كلثوم وأحمد علام، وأنتج العديد من الأفلام الناجحة بعد ذلك.

وأسند إليه "طلعت حرب"، إضافة لعمله في ستوديو مصر، مهام المدير العام للقسم الهندسي لشركات بنك مصر، ومدير عام مطبعة مصر.

وفي 1938 أنتج ستوديو مصر فيلما باسم "لاشين" استوحى فكرته من هنريش فو مامين، وعهد كتابة السيناريو لفريتز كرامب وأحمد بدرخان، وكتب حوار الفيلم أحمد رامي، وأخرجه فريتز كرامب، ومونتاج نيازي مصطفى، بطولة حسن عزت الذي لم نره بعد ذلك، ونادية ناجي ومعهما حسين رياض وعبد العزيز خليل وغيرهم.

أثار الفيلم ضجة كبرى، وأثار حفيظة القصر لأنه يحكي عن ثورة شعبية ضد الحاكم المستبد، وينتهي الأمر بالقضاء على هذا الحاكم الغارق في نزواته، فطُلِبَ من "سالم" تعديل السيناريو والحوار لتكون النهاية لصالح الحاكم لكنه رفض، وقدم استقالته من كل هذه المناصب لتمسكه برأيه.

ثم أسس شركة أفلام أسماها "نفرتيتي"، واستأجر لها مقرًا في شارع أبو السباع "جواد حسني حاليا"، وجمع حوله عددًا من الفنانين والفنيين الشبان الطموحين، وأقدم على أول إنتاج له بفيلم "أجنحة الصحراء"، وكتب هو السيناريو والحوار، وقام بالإخراج وبطولة الفيلم، وصوَّره جوليا دي لوكا وفاركاش، وشارك في بطولة الفيلم راقية إبراهيم وأنور وجدي وحسين صدقي وعباس فارس وروحية خالد ومحسن سرحان، وبدأ عرض الفيلم أول أكتوبر سنة 1939 بسينما ديانا.

ابتعد "سالم" عن السينما بعد فيلم "أجنحة الصحراء"، ليشارك في أعمال تجارية ضخمة مثل تجارة السلاح، وكانت له مغامرات مثل توريد الخوذات للجيش الإنجليزي، وأحدثت ضجة في الأوساط الفنية، وأيضا السياسية، ودخل بسببها السجن، وكان المتهم الأول في تلك القضية، وطلب الادعاء الحكم عليه بالإعدام.

فقال "أحمد سالم": "كنتُ الأول دائمًا في كل شيء، فكنت الأول في الطيران والأول في الإذاعة والأول في السينما، ولما قُدِّمتُ إلى المحاكمة كنت كذلك المتهم الأول، لأن المحكمة طلبت الحكم عليَّ بالإعدام".

وبعد تبرئته عاد للسينما مرة ثانية، وقام بدور البطولة أمام راقية إبراهيم في فيلم "دنيا" عام 1946 من إخراج محمد كريم، وقدم في تاريخه الفني 6 أفلام من تأليفه وإخراجه وبطولته، آخرها كان "دموع الفرح"، والذي عرض عام 1950 بعد وفاته حيث توفي عام 1949 بينما كان يصور الفيلم، واستكمل إخراجه فطين عبدالوهاب.

اكتشف "سالم" الفنانة كاميليا، وتزوج عدة نساء، منهن: تحية كاريوكا، ومديحة يسري، وكان لزواجه بالمطربة أسمهان قصة مؤلمة، سببت له الكثير من المشكلات والقلاقل، والصراع مع أخطر رجال القصر، أحمد حسنين باشا، وانتهى الأمر برصاصة استقرت في صدر "سالم"، لكن الأطباء استخرجوها، وخرج من المستشفى على قدميه.

ورحل الإذاعي والممثل والمخرج والطيار، العبقري "أحمد سالم"، بعد تعرضه لآلام مفاجئة نُقل على إثرها للمستشفى، ليجري جراحة استئصال "الزائدة الدودية"، غير أن انتكاسة حدثت له بسبب الجرح القديم من الرصاصة، لتفشل الجراحة، ويموت عن عمر لم يتجاوز 39 عامًا، فقط!
الجريدة الرسمية