رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

الشفرة الوراثية المصرية وآفاق المستقبل


مع بداية القرن الحادي والعشرين ومع الإعلان عن فك الشفرة الجينية (الجينوم) للإنسان، فقد حدث تطور هائل في فهمنا لبيولوجيا الخلية، واكبه تطور أسرع في التكنولوجيا الحيوية (البايوتكنولوجى)، مما أدى إلى ظهور علوم جديدة تعتمد على دراسة الخلايا والجزيئات والجينات، وتفاعلها وتناغمها وتكاملها لأداء الوظائف الفسيولوجية لجسم الإنسان، ومن ثم كان لزاما على كليات الطب تغيير المناهج الدراسية وطرق التدريس من النظام التقليدي القديم، إلى أنظمة أكثر تطورا تتفق مع علوم العصر.


وكذلك حدث تطور هائل في طرق التشخيص للأمراض، مع امكانية تصوير البيئة الداخلية للخلايا ومتابعة نشاطها، وظهرت تكنولوجيا التنبؤ بنشاط الأنسجة والخلايا وتداخل العوامل الوراثية مع العوامل البيئية ودورها في حدوث الأمراض في المستقبل، وساعد معرفة الجينوم البشري على امكانية توفير علاج شخصي لكل إنسان حسب تركيبه الجيني، وهو ما أصبح معروفا بالعلاج الشخصي الدقيق.

ولقد تعلمنا في كليات الطب بالنظام التقليدي، علوما مستقلة عن بعضها البعض، مثل علوم التشريح، وكنا ندرس الأجهزة مثل الجهاز العصبي والهضمي والتنفسي وغيرها، ثم ندرس الأعضاء التي يتكون منها كل جهاز، وفي علم الأنسجة كنا ندرس تركيب كل نسيج وشكله تحت الميكروسكوب الضوئي، ثم ظهر الميكروسكوب الإلكتروني، وكان أقصى ما يمكن التعرف عليه هو نشاط الأعضاء والأنسجة.

والآن، لم يعد ذلك مقبولا بعدما اتضح أن كل انسجة الجسم وخلاياه تتناغم مع بعضها البعض، ولذا يجب التدريس بنفس الطريقة التكاملية التي يعمل بها الجسم البشري.

ومن التعرف على الحياة الداخلية للخلية (cell biology)، وتركيب الجزيئات التي تتكون منها الخلية ( molecular biology).

ومع الإعلان عن التسلسل الوراثي للحامض الأميني (DNA) للإنسان أصبحت هناك آفاق واسعة لتوقع حدوث أمراض ولاكتشاف أدوية وطرق علاج حديثة تناسب كل إنسان على حدة.

وقد بدأ التخطيط لدراسة الجينوم البشري (Human Genome Project)، في الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٨٨، وتم وضع أولى الخطوات التنفيذية سنة ١٩٩٠، ووضع خطة عمل تستمر ١٥ سنة وتكلفة مبدئية ٣ مليارات دولار لاستكمال المشروع، إلا أنه استغرق وقتا اقل من المخطط وتم استكماله في عام ٢٠٠٣.

وفي ٢٦ يونيو سنة ٢٠٠٠، أعلن كل من الرئيس الأمريكي "بيل كلنتون" ورئيس الوزراء البريطاني "توني بلير، في دائرة تليفزيونية مغلقة بين البيت الأبيض و١٠ دوننج ستريت عن استكمال ٩٧٪؜ من الشفرة الوراثية للإنسان، وقالا "أن هذا أعظم إنجاز علمي في القرن العشرين"، أعظم من اكتشاف المضادات الحيوية ومن الهبوط على سطح القمر.

وقد تم نشر أول تقرير عن الجينوم البشري في جورنال الناتشر في فبراير سنة ٢٠٠١، وبمشاركة أكثر من ٢٨٠٠ باحث من كل دول العالم. وفي أبريل سنة ٢٠٠٣، تم نشر التقرير الكامل للجينوم البشري، والذي يحتوي على تسلسل أكثر من ٣ مليارات زوج (أكثر من ٦ مليار قاعدة) من قواعد الحمض الأميني الـ DNA، تحملها نواة الخلية الواحدة في جسم الإنسان، والتي يقدر عدد خلاياه بأكثر من ٨٠ تريليون خلية. وتحديد مايقرب من ٢٠-٢٥ ألف جين وراثي تتحكم في نقل المعلومات الوراثية من الآباء إلى الأبناء.

وللتبسيط يمكن تخيل الشفرة الوراثية بأنها مكتوبة في ٣ آلاف كتاب، كل كتاب يحتوي على ٥٠٠ صفحة، وانه لو وضعت هذه الكتب فوق بعضها لشكلت ناطحة سحاب عملاقة في ارتفاع مبنى "امبير ستيت" في نيويورك.

ويشترك البشر جميعا في أكثر من ٩٩.٩٪؜ من التركيب الوراثي للحامض الأميني، ويختلفون في ١.٪؜، ويقترب باقي الكائنات في تركيبهم الوراثي من الإنسان حسب رقيهم في سلم التطور الطبيعي، حيث يتشابه الشمبانزي مع الإنسان في ٩٦٪؜ من التركيب الوراثي.

ولقد تم عمل خريطة جينية لكل أجناس الأرض وأصبحت معروفة ومتاحة لجميع الباحثين في كل دول العالم، وتشمل التتابع الموثق للأفارقة والآسيويين والأوربيين والأمريكان وغيرهم. وحتى الأمس القريب لم يكن هناك خريطة موثقة للجينوم المصري، إلى أن أعلن الأستاذ الدكتور "صالح إبراهيم"، الأستاذ الشرفي بطب المنصورة وأستاذ الوراثة بجامعة "لوبيك" الالمانية، مع الأستاذ الدكتور "محمد سلامة"، مدير مركز الأبحاث التجريبية بطب المنصورة عن اكتمال أول خريطة جينية لعدد ١١٠ أشخاص من المصريين، تم إرسال عيناتهم إلى المعامل في ألمانيا وتم إجراء البحث في المعامل الألمانية.

وقد أسفرت الدراسة عن نتائج مذهلة، منها التشابه الكبير جدا بين كل المصريين، واختلافهم بنسب مختلفة عن باقي أجناس الأرض، في شكل يوحي بان المصريين هم أول من استوطنوا كوكب الأرض، وأن هناك تغيرات جينية قد نتجت عن هجرة الإنسان من مصر إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا، وهو ما كان يعتقده علماء الأنثروبولوجي، وأصبح الآن أقرب ما يكون إلى الواقع العلمي.

وبالإضافة إلى الأنثروبولوجي (علم الإنسان والمجتمعات الإنسانية)، فهناك فوائد عظيمة للبشرية من معرفة الجينوم البشري والجينات الموروثة والاستعداد لحدوث الأمراض وعلى رأسها السرطان والشلل الرعاش والزهايمر. ولعل قصة الممثلة المشهورة "أنجلينا جولي" تفسر المقصود من دراسة امكانية حدوث السرطان في المستقبل، حيث توفيت والدتها بسبب سرطان المبيض وهي في نهاية العقد الرابع من العمر، وتم عمل اختبار لـ"أنجلينا" وتبين أنها ترث نفس الجين المسبب لسرطان الثدي والمبيض، مما اضطرها لاستئصال المبيضين والثديين لتفادي حدوث السرطان بهما.

وهناك أيضا ادوية وعقاقير سوف تكون مخصصة لكل إنسان على حدة، وهو ما أصبح ممكنا في الوقت الحالي لتفصيل علاج خاص لكل شخص ولكل مرض على حدة، حسب تركيبه الجيني. ومازال المستقبل يحمل الكثير من المفاجآت العلمية لبني البشر.
Advertisements
الجريدة الرسمية