رئيس التحرير
عصام كامل

موت الإعلام!


من عجائب السنوات العشر الماضية، والتي نرشحها للاستمرار، أن الثقة باتت منعدمة تقريبا بين الشعوب والحكام، في الإعلام!

منعدمة وربما تقع الوفاة خلال فترة قادمة وجيزة، وليس وجه العجب في انعدام الثقة في حد ذاته، بل وجه العجب أن الحاكم لا يثق في الإعلام، وأن المحكوم هو الآخر لا يثق في الإعلام، والطرفان يعتبران الإعلام كاذبا أو منافقا، أو محرضا. كل تهمة من هذه التهم تحتل موقعها البارز حسب منصة إطلاقها، منصة الحاكم أم منصة المحكوم.


قبل أيام طقت في دماغ الرئيس الأمريكي ترامب فكرة، أظنه لن يكل ولن يمل حتى يحققها، وهي إنشاء شبكة إخبارية دولية أمريكية حكومية!

يريد إقامة منصة للإعلام الرسمى للدولة الأمريكية. أما سبب حماسه لإنشاء الشبكة التي تديرها الحكومة الأمريكية فهو كراهيته البالغة لمحطة CNN التي يعتبرها أم الكذب في أخبارها!

هو يثق في "فوكس نيوز" فقط. والمعروف أنه يناصب الإعلام الأمريكي عامة العداء علنا وكثيرا ما صرح بأن الإعلام الأمريكي عدو الشعب.. من أجل هذا يقترح ترامب أن ينشئ إعلامه الرسمى الخاص الذي يشرح ويوضح ويبرر، ويواجه ويشتبك !

بالطبع يوجد للحكومة الأمريكية محطة إذاعة تابعة للخارجية الأمريكية، موجهة للعالم الخارجي بمختلف اللغات، وكان اسمها صوت أمريكا، وقد عملت بها فترة من حياتي، في منتصف التسعينيات، مترجما... ومذيعا لم يحقق نجاحا يذكر في مواجهة الميكرفون، وإن تفوقت في الترجمة!

هذه المحطة الآن اسمها سوا.. سوا!

ترامب يريد محطة إخبارية حكومية تواجه محطة إخبارية قطاع خاص!

حين تقرأ خبرا كهذا عما يحدث من تحول في التفكير الأمريكي، حول مفهوم حرية التعبير وحرية الاعتقاد، ستجد نفسك سقطت في بحر الظلمات، فقد تشابكت المفاهيم وسقط منها ما سقط وعلا منها ما علا، في حقبة صار السيد فيها هو الغوغائية، وشيوع لغة القوة، واختراق الخصوصية.

ومن عجب أن أمريكا التي تضيق على الحريات في داخلها بالتنصت على المكالمات والتضييق على الأقليات، من ناحية الدين ومن ناحية العرق ومن ناحية اللون، ومن ناحية بلد المنشأ، هي ذاتها أمريكا التي تقول لأوروبا لا.. لا يجب التضييق على الإنترنت. لأنه فعل يتنافى مع حرية التعبير !

أوروبا قررت ألا تترك الشعوب الأوروبية فريسة لإعلام الفوضى، يبث الكراهية ويحرض على الجريمة، وينشر الإرهاب، فبدأت تسن قوانين للسيطرة على منصات التواصل الاجتماعي، التي صارت في حقيقتها أدوات للتفسخ الاجتماعى.

هذا ما يحدث اليوم في الديمقراطيات.. فلقد رأت أن الإعلام العشوائي يمثل قوة نووية نظرية، يمكنها إسقاط الدولة الوطنية، وإقامة دولة إلكترونية وهمية السيادة فيها للعصابات والتكتلات المجهولة والأناركيين والأنينموس... الحكومة العالمية الخفية.

فكرة حرية التعبير تسقط الآن تحت أقدام الأمن أولا، والدولة أولا، والخبز أولا. والجدران الأربعة والسقف والباب المغلق أولا.. ما معنى أن أعيش في محيط متلاطم من الأكاذيب، ومن الشائعات، ومن أنصاف الحقائق.

المنصات الإلكترونية يعيش عليها ويكتب فيها ملياران وأكثر تقريبا من البشر، كل فرد منهم صار يملك جريدة وموقعا وصفحة ومحطة على الهواء، وفي مواجهة ذلك كله ضعفت سيطرة الدولة، بل باتت الدول في حاجة للدفاع والتبرير، إزاء موجات هادرة لا تتوقف عن التشهير والتشكيك والدعوة إلى التفكيك.

أوروبا تدعو لتقييد حرية الفوضى وإطلاق حق الدخول على بيانات المستخدمين، وأمريكا تعترض لأنها مع حرية التعبير، وهي كاذبة، لأنها أيضا تحصل على بيانات المستخدمين كافة، وتعرف كل شيء عنهم أكلا وشربا ومواقع وتحركات وأفكارا وانتماءات واتجاهات وكل شيء.. حتى الميول الجنسية!

ورغم ذلك فالحاكم لا يثق والمحكوم لا يثق.. لأنه ببساطة لم يعد هناك ما يحترمونه ويرونه جديرا بالثقة.. سوى الفوضى والعشوائية. هذا بحق عصر سقوط الإعلام!

الجريدة الرسمية