رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

إن كلا يغني على ليلاه!


لا أدري من أين أكتب وخاصة بعد أن توقفت عن الكتابة لقرابة شهرين، تحول خلالهما عقلي إلى جراج متعدد الطوابق، مزدحم بالكثير والكثير من الحكايات، أكثرها مؤلم وتحمل في طياتها ملوثات سامة، أصابت قلبي بوهن شديد من كثرة النبض غير الطبيعي، أصبحت لا أحب الحديث مع أي شخص في أي موضوع، بعد أن كنت لا أتوقف عن الكلام وإبداء الرأي بإسهاب في كافة الأحداث، أصبحت عاشقا للصمت وأهوى عدم الاختلاط بالناس، وأعلم أنها أعراض اكتئاب، والحقيقة أن الأسباب كثيرة ومتعددة، منها الشخصي ومنها العام واختلاطهم فيه عذاب لا يتحمله الكثير!


أحاول قدر ما استطعت أن أخفف ضغطا عاليا أوجع قلبي، بالكتابة، وَأعلم يقينا أن وجع القلب لا يأتي من الزمان أو المكان، ولكنه يأتي من الأشخاص التي تصنع أحداث الزمان والمكان، وخاصة إذا كانت أشخاصا قريبة إلى القلب، فكم من أشخاص كنّا نعتقد في أهميتنا في حياتهم، مثلما هم في حياتنا، ثم اكتشفنا عدم وجودنا من الأصل في قلوبهم، حتى نكون ذوا مكانة في حياتهم، وقد يكون هذا الوصف الصعب تجسيدا لمفهوم مكانة وقيمة الأشخاص وعلاقتها بالأحداث، ومحاولة ذاتية في علاج التهابات مزمنة، نتجت من أحداث عامة أوجعتنا، على الرغم من أنها صنيعة يد أشخاص لا تجمعنا بهم علاقة حب أو كراهية!

وخلال الفترة السابقة وعلى المستوى العام، دارت أحداث صعبة كثيرة، أوجعتني وصدمتني كثيرا، لدرجة أنني لا أستطيع الآن أن أكتب نصيحة لمن يطالع هذا المقال، أو حكمة مستخلصة، ولكني أستطيع أن أقول إننا أصبحنا نعيش في عالم درامي أقرب للمسرح، أحداثه كلها مثل أحداث المسرحيات، يجسدها أشخاص تحترف التمثيل، تُصدر نفسها لمن حولها في صورة مثالية وهم أبعد عن ذلك بكثير، لا يوجد في حياتنا قدوة حسنة حقيقية، وحتى أكون موضوعيا؛ هذا العالم الذي نعيشه أصبح رماديا، وأصبح تمييز الأبيض من الأسود فيه شيئا صعبا، إن لم يكن مستحيلا!

ولأني أعتقد في نظريات الاحصاء والاحتمالات، فإنني على يقين أنه في بعض الأحيان يكون إنتاج اللون الرمادي غير مقصود، وفي أحيان أخرى يكون مُتعمدا، بل له خطوط إنتاج ويتحول إلى استثمار، بل إنه يكون سببا في فتح باب الفتن على مصراعيه، يجتهد فيه كل صاحب غرض، على حسب هواه ونيته ومقصده ومصلحته، وللأسف يبدو أن إنتاج اللون الرمادي أصبح سلوكا مجتمعيا سائدا، والكثير يشارك في إنتاجه وتسويقه، والتسويق له رجاله، وكل منهم يُغني على ليلاه!

والتسويق في تقديري هو أعظم شر في هذه المعادلة الخطية، فالمنتج الرمادي إن لم يجد من يسوقه، قطعا سوف يتأثر خط إنتاجه وقد يصل إلى توقفه، لكن ما دام هناك من يتكسب من وراء تسويق هذا المنتج فسيظل إنتاجه مستمر وسيظل الوجع عظيم، وستنتشر الفتن داخل الأوطان!

وهنا أتذكر قصة مقولة العرب "إن كلًا يغني على ليلاه" على شعراء بني عامر عندما أصبحوا جميعا يغنون بليلى في شعرهم متأثرين بشعر قيس في ليلى، ولأنه من المستبعد أن يكون جميع شعراء بني عامر قد هاموا بليلى العامرية، ومن المستبعد أيضًا أن تكون كل فتيات بني عامر اسمهم ليلى، فقد قال العرب إن كلًا يغني على ليلاه، يعني إن كل واحد فيهم يستخدم اسم ليلى كناية عن شيء آخر موجود في مخيلته.

وإذا استبدلنا شعراء بني عامر بمن هامو باللون الرمادي واستبدلنا اللون الرمادي بليلى، فإن التمسك بالقيم والأخلاق والحفاظ على صلة الرحم وبر الوالدين ونبذ العنف ووُحدة الأوطان واحترام الدين واللون والجنس لم ولن تتحقق إلا بعد أن يصمت كل من يُغني على ليلاه وتعود القدوة الحقيقية إلى حياتنا!
Advertisements
الجريدة الرسمية