رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

قصة حب عاشت 70 عاما.. قدري وعصمت «ما يجمعه الرب لا يفرقه إنسان»

فيتو

في منزل رقم «٥» بشارع التلول بحي السيدة زينب، وفي صيف عام ١٩٣٧، كان اللقاء الأول بين حسين ابن الأربعة أعوام، أصغر أبناء عائلة قدري، وعصمت، ابنة الخال التي لم يتجاوز عمرها وقتها شهرا، يومها أخبرته زوجة خاله أنها أتت إليه بهدية، سارع على الفور نحوها وضعتها على قدميه، ظنها دمية في بداية الأمر، ولكن بمجرد أن داعبها وتبسمت، وقع في غرامها وهنا بدأت قصة حب لم نسمع عنها أو نعرفها إلا في الروايات والأساطير.


على مقهى شهير بحي السيدة زينب، جلس قدري، ابن حي الدرب الأحمر، ضابط البوليس آنذاك، يشاغل فريدة، الشابة التركية الحسناء، يراقبها لشهور وتراقبه من وراء المشربية، هكذا كان الحب في سنة «١٥» إلى أن لمحها يومًا على أعتاب منزلها في طريقها لقضاء أمر ما، بمجرد مغادرتها للمنزل، انتهز الضابط الشاب الفرصة وتقدم لخطبتها، وافق والديها على الفور وبدأت قصة حب مشتعلة، نتج عن الزواج ابنة توفت بعد ميلادها، وثلاث أبناء كان آخرهم حسين قدري، الكاتب الصحفي الذي جاب العالم، ولم تشغله كل النساء سوى محبوبته «عصمت كاظم».

يقول حسين قدري، رئيس تحرير مجلس الإذاعة والتليفزيون الأسبق، ومراسل التليفزيون المصري في لندن على مدى ٤٥ عامًا: "أحببتها منذ اللحظة التي وقعت عليها عيني، كانت طفلة شديدة الجمال والبراءة، أحبتها أمي ودللتها، بل اعتبرتها تعويضًا من الله عن فقدان ابنتها، وأطلقت عليها عصمت هانم، وكانت زوجة خالي حريصة أن توطد تلك العلاقة، على رغم أنهم يسكنون حي المعادي الراقي، ويقطعون مساحة ليست بقليلة إلى السيدة زينب، إلا أن الطفلة ذات الملامح الملائكية كانت دائمة التواجد في منزلنا".

"كنت أعتبرها أنا أيضًا طفلتي المدللة ولازلت، كثيرًا ما اقتطعت من مصروفي وأنا طفل لأهديها دمية، أو مجلة والحلوى المفضلة لديها، كان مصروفي ١٥ قرشًا، وصل إلى جنيهين عندما التحقت بمنتخب نادي الزمالك للكرة الطائرة، هنا تضاعفت الهدايا لصغيرتي ومحبوبتي عصمت هانم، كما كانت تحب أن تناديها أمي".

يروي قدري تفاصيل تعلقه بعصمت: "كنت ابن ثماني سنوات، وهي ابنة الأربعة أعوام، قبلتها ذات مرة، وهنا أدركت أنها لن تكون لغيري، استمر الحب إلى أن وصلت إلى عمر الـ١٤، كانت طالبة في المدرسة الأمريكية بالقاهرة، وأنا لتوي أتممت الثامنة عشر، وكنت طالبًا في كلية الهندسة، جاءت أبلة أمينة، زوجة خالي الذي كان يعمل طبيبًا وأخبرت أمي أن عصمت تحبني وتريد أن تتجوزني، فرحت أمي فرحًا جمًا، ولكن ظلت تباغتها عن أسباب اختياري من بين باقي أبنائها، وبعدها اتفقا على خطبتنا، في اليوم التالي".

٢٥ جنيها، كانت تكلفة الشبكة التي تنوعت ما بين « أساور، خواتم، وعقد، وغيره" تكلفت خواتم الخطوبة للعروسين «الدبل» ١٢٥ قرشًا، كانت هدية فخمة تليق بأبناء الطبقة الوسطى من الشرائح الأولى في عام ١٩٥١، وهنا تحول الخال، والد العروس، ومارس دورًا سلطويًا، وضع قيودًا صارمة للعلاقة، وقائمة طويلة من الممنوعات «ممنوع الخروج، ممنوع تزورنا كتير ولما تزورنا هيكون في وجودي، ومع الوقت تزيد قائمة الممنوعات».

عامان مرا على قصة العشق، في ثوبها الرسمي، عرقل استمرارها تحكمات الأب واندفاع الحبيبين، هنا التقطت عصمت أطراف الحديث: "كان كريمًا جدًا يهديني باقات الورد والشيكولاتة، واعتدنا دائمًا الذهاب إلى السينما بعلم ومباركة والدتي، التي أحبت حسين حبًا شديدًا، إلا أن والدي قرر أن ينهي خطبتنا قسرًا، يوم الاحتفال بعيد ميلادي السادس عشر.

رغم مرور عشرات السنين ما زال حسين يحفظ تفاصيل ذلك اليوم الكئيب عن ظهر قلب: "اتفقنا أن ندخل سينما احتفالا بعيد ميلادها، دون علم الأب المتحكم، على أن تعود إلى المنزل قبل الساعة الرابعة، موعد رجوع الأب".


أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، حرص الأب أن يعود قبل موعده بساعة للاحتفال بابنته وأكبر أبنائه، وهي ذات الساعة التي اتفق فيها حسين وعصمت للعودة إلى المنزل، دق جرس المنزل وإذا بخاله يفتح الباب، عنف ابنته وتوعدها، وطرد حسين، وحذره أن يعود ثانية، ووجه إليه رسالة :" أنت مش هتفلح ولما تنجح ابقى تعالى، وادي ذقني لو نجحت".

٩ أشهر كاملة انقطع فيها حسين عن بيت خاله ورؤية محبوبته عصمت، وجاء يوم ظهور النتيجة وكان ترتيبه الخامس على دفعة كلية الهندسة، جامعة القاهرة، أول منزل قصده، كان منزل الخال، ليزف إليه خبر نجاحه بتفوق، وتعود إليه محبوبته، إلا أنه وجد مفاجأة في استقباله " عصمت مين عصمت اتجوزت من ٥ شهور، وقربت تولد"، لم يستوعب ما قاله الخال، هرول إلى والدته، التي أخبرته أنها كانت تعلم كل شيء:" أنا عارفة كل حاجة، وسكت لأن عصمت ما اتمسكتش بيك، هي لو كانت جاتلي وأنا كبيرة العيلة، كنت هرجعكم لبعض، وخالك كان هيرضخ لرغبتي، لكن هي ما حاربتش عشانك واستسلمت"، منذ هذه اللحظة تحول قلب حسين إلى مساكن شعبية، وظن أن الحب أكبر خدعة في تاريخ الإنسانية.

عصمت تلك الفتاة المستضعفة التي لا حيلة لها، نهرها الأب، وأسقط عليها ضربات متتالية، وبعد أيام في وقت الظهيرة تحديدًا، دق جرس المنزل، فتحت الفتاة، وإذا بشاب ملامحه أسيوية معه رجلان، تقول: "دب الخوف في قلبي، رغم طمأنة والدتي، كنت أعلم أن هذا الرجل سيغير مجرى حياتي، وسيكون جزءًا من مشهدٍ مأساوي سأعيشه مستقبلا، انفرد أبي بهم، وبعد ساعة، جاء ليزف لأمي خبر موافقته على زواجي".

٧٠٠ جنيه كان مهر الصغيرة، من الشاب الصيني السعودي، الذي حصل لتوه على الدكتوراه من جامعة الأزهر بالقاهرة، وهو مبلغ أغوى الأب، فأكبر العائلات لا يزيد مهرها عن ١٠٠ جنيه في بداية خمسينيات القرن المنقضي، بعد يومين وداخل غرفة والديها تزوجت من الشاب الثري، أخبرته الفتاة أنها لا تحبه وتحب شخصًا آخر لكنه لم يكترث، إلا أن الأم كادت أن تموت كمدًا على صغيرتها، هنا أدرك الأب الجريمة التي ارتكبها في حق ابنته، وخيرها لو أرادت تطليقها منه، وأنت تتزوج من أحد جيرانها الشبان الذي كان يدرس في كلية الهندسة أيضًا، ولكنها كانت ترغب في العودة إلى حسين الذي رفض العودة، بعدما قرر أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يعمل مهندسًا في إحدى الشركات العالمية، هنا استسلمت عصمت لواقعها التعس، وذهبت لتستقر في المملكة العربية السعودية، أسست بيتًا وكانت أما لتسعة أبناء، بقي منهم خمس، إلا أن زوجها طيلة هذه المدة التي قاربت على ٤٠ عامًا، لم يستطع أن يمتلك قلبها، وانتهى هذا الزواج بانفصالهما عام ١٩٩١ قبل حادث اغتياله بأسابيع، تاركًا لها ثروة كبيرة.

حسين، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قرر أن يعود إلى الصحافة التي عشقها وعمل بها منذ سن الثانية عشر، كصحفي لكتب الأطفال، ولكن عيّن هذه المرة في مجلة الإذاعة وكان عمره ٢٤ عامًا، ألتقى بزميلته الكاتبة الصحفية سامية حمام، سريعًا لامست قلبه واستحوذت على جزءٍ منه، دون أن تحتل مكانة عصمت، تزوجا لمدة ١٠ سنوات، لم تسفر عن أبناء، كانت تعلم فيهم سامية مدى حب حسين لعصمت، بل نشأت علاقة ود وصداقة بين السيدتين، حتى بعد انفصالهما"

تزوج حسين مرة أخرى من إيناس عبد المجيد على، ابنة حكمدار الجيزة، واستمر الزواج لمدة ثلاث سنوات وتسعة أشهر، وأخيرًا تزوج من إحدى أقاربه تصغره بنحو ٤٠ عامًا كانت أكاديمية وتدعى فاطمة، ماتت بعد زواجهما بتسعة أشهر مصابة بمرض سرطان الثدي".

لم يعش حسين وعصمت، قصة حب كالتي عاشها جبران خليل جبران ومي زيادة، لم يراسلا بعضهما، لم يكن بينهما خطابات، بل احترم كل منهما، وجود الأطراف الأخرى سواء زوج عصمت أو زوجات حسين، ولكن عصمت كانت تتذكره في كل حرف تقرأه له، كانت تحتفظ في مكتبة منزلها بمدينة الرياض، بكل كتابات ابن الخال، الذي بلغ عددهم ٢٢ كتابا:" كنت في زيارة إلى القاهرة، وقصدت منزل حسين، وأبلغني حارس العقار أنه غير متواجد في شقته، انتظرت قليلا وإذا بحسين قادم من بعيد، تواريت عنه، وكان معه سيدة ذات شعر أسود قصير، وإذا بالبواب ياهانم يا هانم أستاذ حسين أهو، كدت أن أكتم أنفاسه، وانصرفت على الفور".

ما بين لندن وواشنطن والقاهرة، قضى حسين ٢١ عامًا عمره وحيدًا بلا امرأة، وظلت عصمت ونيسة خياله، يرتبط بأبنائها ارتباطًا وثيقًا ولا سيما البنات منهم، يمارس دور الأب الحنون والصديق النصوح، بعدما رحل الأب، فرغم أنه كون صداقات مع نجمات حسناوات على رأسهن زبيدة ثروت وشادية، إلا أنه لم ينشغل لحظة عن عصمت وبراءتها وجمالها التركي الساحر".

«ما يجمعه الرب لا يفرقه إنسان».. بعد ٨١ عامًا من الحب والفراق، قرر حسين أن يتقدم للزواج من ابنة خاله وحبه الأبدي، فداخل الشقة رقم «١٢١» بعمارة برج رمسيس بوسط القاهرة، اختار أن يؤسسا معا بيتًا وحياة جديدة، ليصبحا حديث الجميع يقول:" العمر بالنسبة لي مجرد رقم، أظنني ابن الثامنة عشر عامًا، لازلت طالبا في كلية الهندسة، وأسعد لحظات حياتي وهي بجواري، أقرأ لها كتابا أو مقالا، ففي الظلام تتشابه كل النساء إلا حبيبتي عصمت".
Advertisements
الجريدة الرسمية