رئيس التحرير
عصام كامل

أحضان أمي


حبي لأمي ليس استثناءً، ولا حنيني الدائم لها تفردًا، ولا غرابة في حاجتي المستمرة إليها، فتلك قواسم مشتركة فطرنا الله عليها، لكن الاستثناء قد يكون في تلك العلاقة التي جعلتني طفلًا حتى المشيب، أسابق بناتي في اقتسام ذراعيها أتوسد واحدة ويتوسدن الأخرى، مستغلًا رخصة (الصغير) التي تمنحها الأم دائمًا للابن الأخير.


لم يسبق لي أن جربت الكتابة عن أمي، ربما ليقيني أن سطوري لن تتسع لغزارة كلماتي، أو أن كلماتي لن تستوعب أحاسيسي، أو أن الكتابة فضفضة تفتر بعدها المشاعر، أو لأن الكتابة ترتبط بحالة تنقضي بعد تفريغها على ورق، لكنها ابنتي الصغرى التي اعتادت على لعب دور أمي، تفرد ذراعها لأضع رأسي عليها، ثم تلف الأخرى حول عنقي فتخلد هي إلى النوم، وأذهب أنا بذاكرتي إلى حضن أمي.

لم يأخذني من ذلك الحضن سوى انتقالي من القرية إلى القاهرة للدراسة في الجامعة، فكان الخروج منه عبئا زاد على أعباء غربة قروي لم يبهره شيء في المدينة، بل زادته تلك الكتل الخرسانية حنينًا إلى القرية، وزاده الزحام دوام الهروب إلى المساحات الخضراء في الغيطان، وزاده جفاف أهل المدينة تمسكًا بعادات الريف الدافئة.

وجدت سلواي في (زوادة) أمي، والزوادة هي ما ترصه بيديها من أطعمة في حقيبة سفري، كنت أحتضن كل ما لمسته بيديها، أرغفة العيش الفلاحي، أكياس الأرز، صفيحة البيض، أما قصاصات الورق التي تلف فيها البيض حتى لا ينكسر فكنت أجمعها وأضعها تحت مخدتي، لأن ما لمسته يد أمي يجب ألا يكون مصيره صندوق القمامة، كل ذلك كان مددي حتى أعود آخر الأسبوع لأتزود بالأطعمة ودفء حضن أمي.

ظللت هكذا أخرج لأعود إلى ذلك الحضن حتى أنهيت دراستي وبدأت أمارس الصحافة في جريدة الوفد، سلواي كانت في ما تلمسه يد أمي، أما سلواها فكانت فيما أكتب، تقبل اسمي، ثم تضم الجريدة إلى حضنها، ثم تعيدها إلى أحد إخوتي ليتلو على مسامعها ما كتبت، يقرأ وهي مبتسمة، ينتهي فتطلب منه الإعادة، ثم تأخذ الجريدة وتضعها تحت مخدتها مثلما أفعل في وريقات لامست يدها.

أجبرت أمي على تعلم القراءة، واكتفت بمعرفة حروف اسمي، أجبرها على ذلك الجيران الذين كانوا بحاجة دائمة للجرائد القديمة، فكانت تحتفظ لنفسها بالصفحة الموجود فيها اسمي وتعطيهم باقي الجريدة، ثم تضع الصفحة تحت مخدتها، ثم اضطرت إلى وضع الأوراق في صندوق بعد أن تكاثرت.

تغيرت أوراقي عند أمي فصارت إطلالة لي على شاشة أو اسم على تتر برنامج، وتغيرت أوراقها بزواجي، فكانت بعض من ملابسها وفوارغ أدويتها، ثم توقف نصفها بفعل جلطة دماغية فكان حضنها لي بذراع واحدة يملؤني بدفء الدنيا، توقفت الذراع الثانية فكنت أرتمي في أحضان عينيها لتمتلئ شراييني حبًا وقلبي سكينة، خمس سنوات سكتت فيها عن الكلام إلا بعينيها، وفي أحضاني وإخوتي وبناتي سكت كل الكلام.

ذهبت أمي منذ عقد من الزمان، لكن حضنها لم يذهب، أجده في أشيائها المتناثرة، في رائحة ملابسها، في قصاصات الورق، في إخوتي، في ابنتي، وفي زوجتي.

أتمنى على الذين يجيدون التحكم في مشاعرهم عند ممارستهم الكتابة أن يكثروا من الكتابة عن الأم، فالأم وطن، والوطن في أمس الحاجة لمن يخلص له في الكتابة، أحضنوا أمهاتكم، اكتبوا عن أوطانكم، فلا تجارة ولا نفاق ولا رياء في الكتابة عن الأم إذا كانت وطنا.
basher_hassan@hotmail.com.
الجريدة الرسمية