رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

حكايات المشردين مع البرد القاتل.. «فيتو» استمعت لحكايات سكان «الأرصفة والشوارع».. و«عطايا المارة» تمنحهم فرصة لـ«البقاء على قيد الحياة»..عائشة: «خايفة أموت

فيتو

بينما يقبع الكثيرون داخل منازلهم الدافئة يشكون برودة الجو وقسوتها، رغم تدثرهم بالعديد من الأغطية الوثيرة، هناك على الطرف الآخر بشر لا مأوى ولا ملاذ لهم، يفترشون الشوارع، لا تستر أجسادهم الهزيلة سوى ملابس مهترئة، وأغطية قديمة قدمها لهم بعض المواطنين، ومنهم من لا يجد إلا قطعا من البلاستيك أو الكارتون، يتخذها فراشا وغطاء له، علها تحميه من مياه الأمطار والبرد القارس.


بعض هؤلاء "الغلابة" كان في السابق ذا مال وولد وجاه، ولكن القدر جارٍ عليه، فزال عنه ماله وجاهه وتنكر له أولاده، ليجد نفسه وحيدا شريدا على الأرصفة وتحت الكبارى، ينظر إلى المارة بعين الحسرة، تمنعه عزة النفس من أن يمد يده طلبا لصدقة أو إحسان، ومنهم من ضاقت به وبأهله السبل، فقرر طواعية أن يتركهم ويخرج إلى الشارع، حتى يفسح لغيره مكانا في الحجرة الضيقة التي يقيمون فيها، وهناك من وقع ضحية لطمع أقاربه فاستولوا على منزله، وألقوه في الشارع يأكل يوما ويجوع أياما، وربما يموت من شدة البرد، "فيتو" تجولت في شوارع القاهرة وعدد من المحافظات ورصدت حكايات عدد من "سكان الأرصفة والكبارى"، ومعاناتهم الشديدة مع موجات البرد القارسة.

بوجهه البشوش الضاحك، ولحيته الكثيفة وملابسه القديمة الرثة.. يجلس الرجل الستيني وسط شارع في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، يرتل آيات من القرآن الكريم، وبين الحين والآخر يقوم ليصلي.. جلسنا بجواره وسألناه عن حكايته، وسبب إقامته الدائمة في الشارع رغم برودة الجو.. أشاح بوجهه عنا وأطرق رأسه نحو الأرض وبدا وكأنه غرق في بحر من الذكريات الأليمة قبل أن يجيب: "لا تسألوني عن الماضي.. فالماضي قد مضى بما فيه من أفراح وأتراح.. حدثوني عن الواقع الذي أعيشه.. والواقع يقول إننى بلا مأوى ولا جدران تحميني من هذا الصقيع الذي نعيشه حاليا.. الحمد لله على كل حال".. لفتت فصاحته وطلاقة لسانه انتباهنا، فسألناه عن السر فقال: "أنا أحفظ القرآن الكريم كاملا وبالتشكيل، وليس غريبا على من يحفظ القرآن أن يكون فصيح اللسان".

بدا الرجل وكأنه يرفض الحديث معنا عن تفاصيل حياته السابقة أو مسقط رأسه أو أقاربه أو أسرته، ربما ذاق منهم ما يريد أن ينساه، أو ربما فقدهم في حادث أو ما شابه.. ولكنه واصل حديثه قائلا: "أنا ولى من أولياء الله الصالحين.. ما بينى وبين الله كثير، لذلك أنا لا أطلب شيئا من أحد.. ليس لى أي دخل ولا معاش ولا مكان آوى إليه، فقط ملابسي التي أرتديها، وبعض الطعام الذي يسوقه الله لي عن طريق بعض أهل الخير.. أنا أجوب الشوارع أتلو القرآن وأصلي كلما سمعت الأذان، وأنتظر ساعة الممات ولا أقيم وزنا للدنيا فهي فانية أما الآخرة فهى الباقية".. وشدد "عبد الله" كما يطلق على نفسه، على أنه يعانى من قسوة البرد وشدته هذه الأيام، ويلجأ إلى الأنفاق ومداخل العمارات ويتخذ منها ملاذا يحميه من الأمطار والعواصف، ولكنه لا يستقر في مكان محدد.

على أحد جانبى الطريق الدولى بالعريش في محافظة شمال سيناء، يجلس "عم محروس" منذ خمس سنوات تقريبا.. تحرقه حرارة الشمس صيفا، وتلسعه لفحات البرد القارس شتاء.. يرتدى جلبابا باليا تعلوه الأتربة وفوقه بقايا بطانية ممزقة، وتحيط به القمامة من كل جانب.. يرفض الرجل الحديث مع أي أحد ولا ينطق بكلمة واحدة.. أهالي المنطقة رقوا لحاله، وبدءوا في تقديم المأكولات والملابس له رغم عدم تحدثه معهم أو طلب أي شىء منهم.. "لا نعرف عنه سوى أن اسمه "عم محروس" يجلس في مكانه هذا منذ سنوات طويلة".. هكذا أخبرنا عاطف محمد أحد أهالي المنطقة.

وأضاف: "في بداية الأمر كان يتنقل من مكان لآخر، وذات يوم صدمته سيارة مسرعة وتسببت في كسر ساقه، وتم نقله للمستشفى، وبعد تعافيه طلب إعادته ليجلس في نفس مكانه بالشارع، وهو لا يطلب شيئا باستثناء القليل من الطعام وبعض الملابس والشاي"،، اقتربنا من عم محروس وسألناه عن حكايته وسبب تواجده في الشارع وسط هذا البرد القارس، ولكنه تجاهل السؤال تماما، ومد يده بخمسة جنيهات وقال: "لو راجعين تاني هاتوا لى سجاير وكبريت".. وطالب أهالي المنطقة المسئولين بالتدخل ونقله إلى إحدى دور رعاية المسنين، خشية تعرضه للموت المفاجئ بسبب البرد القارس هذه الأيام.

كثيرون هم من يعانون في ظل البرودة الشديدة للجو بالإسكندرية، ويلتحفون السماء ويفترشون الأرض لعلها تكون رحيمة بهم وتدفئهم أو تضمهم إليها أمواتا، فمنهم من لم يجد مكانا له غير الشوارع، ومنهم من أضره عمله لتكون الأنفاق هي مكانه في ظل هذا السقيع الشديد.. عم"محمد" كما يطلق عليه أهالي منطقة العمري بكرموز وسط الإسكندرية، أحد هؤلاء.. افترش الأرض أمام مسجد العمري، القريب من مقابر العمود بكرموز، رغم أن مكان إقامته يعرفه جيدا بكوم الشقافة وهي بمنطقة كرموز أيضا إلا أنه فضل تركه لابن أخيه. "على حد قوله".

الرجل الستينى: "أنا من كوم الشقافة، وأحيان كثيرة أنام هنا أمام مسجد العمري، إذا لم يأت إلى ابن شقيقي الذي يرعاني منذ فترة طويلة، لأخذي لأنام في حجرة مجاورة كانت لي وتركته له ليربي أولاده فيها، فلا يوجد لي أولاد ولا أريد أن أكون ثقيلا على أحد بعد كل هذه السنوات، وأنا أحب ابن أخي كثيرا، وأترك له الحجرة".. ويرتعد "عم محمد" وهو يقول: "أنا لا أوذي أحدا فقط بين الحين والآخر آتي أمام المسجد وأنام، ومعي تلك البطانية وأسفلي أخرى وأيام الشتاء انتقل للجانب الآخر في ممر مقابل للمسجد إذا لم يأت ابن أخي لأخذي للمبيت بكوم الشقافة، ويوضح أنه في بعض الأحيان يذهب بالقرب من مقابر العمود أو يقوم بالمبيت بالقرب من منطقة سكنه في الشارع، ويتنقل بين هنا وهناك حتى يكون قريبا من ابن أخيه الذي يرعاه كل فترة رغم قسوة الشوارع.

في محافظة قنا ينتشر العديد من المشردين الذين يبيتون ليلهم على أعتاب الأضرحة وأرصفة الشوارع، منهم من تركهم الأهل خشية العار بعد إصابتهم بفقدان العقل أو كما يطلق عليهم في الصعيد "انجذب" والبعض طردهم أبناؤهم بسبب الميراث أو تخفيف خدمتهم.. وعلى أعتاب ضريح سيدي عبد الرحيم القنائي تفترش السيدة عائشة. م. ن، من مركز نقادة، جنوب المحافظة، والتي طردتها ابنتها الكبرى، بعد أن استولت على ميراثها من المنزل الذي كانت تملكه الأم وتعيش فيه، وتربوا فيه.

بعيون تملؤها الدموع، سردت السيدة عائشة قصتها لنا، وهي تقضي ليلها على أعتاب سيدي عبد الرحيم القنائي، وتعيش نهارها داخل الضريح، قالت عائشة: إنها تبلغ من العمر نحو 70 عامًا، وتوفي زوجها في عمر مبكر، وترك لها 5 بنات، ومنذ فترة قصيرة فوجئت بابنتها الكبرى تقوم بإحضار بعض الأوراق لها لتوقع عليها، وذكرت لها وقتها أن هذه الأوراق تخص بعض الممتلكات، وبعد التوقيع ومرور فترة قامت بطردها من المنزل وما كان منها إلا أن جاءت إلى أعتاب القنائي، وحرص القائمون على الضريح على تركها لأيام بعد أن سردت لهم مأساتها، ولكن القوانين التي أصدرتها الأوقاف ترفض المبيت داخل دور العبادة، فقرروا تركها في ساعات النهار والمبيت على الأعتاب في عز البرد وأهل الخير أحضروا لها بعض البطاطين، ولكن البرد قاسي جدًا قائلة: "بخاف أموت من البرد..ومحدش يكفنني" وترفض أن يصطحبني أحد إلى منزلها لأنني أخشى أن أثقل على أحد.

وعلى رصيف شارع ميدان الوحدة الوطنية كما يطلق عليه الأهالي حيث يوجد به مسجد ناصر ومطرانية الأقباط الأرثوذكس، يعيش عم أحمد، هذا الرجل الذي طرده بناته والذي تحدث لـ"فيتو" قائلا: "أنا أبيع المناديل والبخور في الشارع، ورغم بلوغي أكثر من 95 عامًا إلا أن بناتي لم يرحمن شيبتي، وتركنني في العراء وفي البرد القارس دون تقديم أي مساعدة لي، وأنا أعانى الكثير من الأمراض، وأحتاج إلى الدخول إلى الحمام، وللأسف أعيش في العراء وعلى الأرض وبعض المارة من أولاد الحلال يقومون باصطحابي إلى الحمامات القريبة مني في الشارع لقضاء حاجتي والعودة إلى فرشتي".

وأضاف: "البرد هذه الأيام قاسٍ جدًّا ورغم أن أهل الخير يقومون بإحضار البطاطين والأغطية لي إلا أن هذا لا يكفيني خاصة أنني أقضي ليلي على الرصيف في الشارع، وسندي في الحياة ماتت وتركتني، وبناتي عكازي في تلك الحياة تركوني دون أي رحمة أو شفقة".

الحاجة سعدية عمرها ٧٣ سنة، أم لثلاث فتيات، أضاعت عمرها عليهن، منذ وفاة والدهما، وهن كعود الزرع الأخضر على حد وصفها، عملت خادمة بالمنازل في نطاق مدينة نصر ومصر الجديدة لمدة تجاوزت الـ١٠ سنوات، تاركة بناتها الثلاثة في منزلهم بإحدى قرى محافظة الشرقية، لتأتي القاهرة وحدها للعمل لتوفير لقمة العيش لهن، تبكي عينها أثناء تذكرها الأحداث الماضية ثم تكمل "بعد ما علمتهم وربيتهم وجوزتهم.. رموني في الشارع".

وأشارت إلى أن أزواج فتياتها تجمعوا لبيع منزل العائلة في الشرقية إلا أنها رفضت لأنه لا ملجأ لها غيره، ولكن ضغط الأزواج على بناتها، واستغلوا أن والدهم قبل أن يتوفاه الله كتب المنزل بيع وشراء حتى لا يدخلوا في مشكلات الميراث مع أعمامهم، وبالفعل باعوا المنزل، ولم يعطوا والدتهم أي جزء من ثمن بيعه، واكتفوا بالاقتراح على والدتهما أن تسكن لدى الشقيقة الكبرى لهم "أميرة" فلم تجد "سعدية" حلا غير أن توافق على ذلك الاقتراح برغم سوء معاملة زوج نجلتها لها.. لم يمر أسبوع على مكوثها لدى ابنتها حتى اشتعلت مشاجرة بين الابنة وزوجها وطالب بأن تغادر المنزل لأى مكان آخر، وقع الكلام على "سعدية" كالصاعقة وقامت منذ ٥ سنوات بجمع أغراضها وترك منزل نجلتها.

ذكرت سعدية أن ذلك الموقف لم يمر عليها مرور الكرام، فمن كثرة حزنها وجدت قدمها تأخذها على "بيت العائلة" لكنها فوجئت أن أصحابه اتخذوا إجراءاتهم لإزالته، فاسودت الحياة بعينيها فذهبت لنجلتها الصغرى تشكو لها ما فعلته الكبرى لتجد صدمة أخرى، وهي مقابلة جافة من نجلتها وهمست لها قائلة: "فيها طلاقي ياما لو جاية ناوية على بيات"، لترد "سعدية".. "ما تقلقيش ده أنا شقيت علشان أبني بيتكوا مش جاية أخرب بيتك يا بنتي أنا رايحة عند صاحبتي" أم عزيز"، منذ ذلك اليوم قررت سعدية أن تنزل القاهرة، محاولة أن تسترجع عملها القديم بالخدمة في المنازل، ولكن صحتها لم تساعدها حيث إنها مريضة ضغط وسكر وقلب، فلم تجد من ساعات وأيام البحث عن عمل لعجوز سوى الشارع الذي احتواها، فكانت تجلس في الأرض وتدخل في نوبات نوم وهي جالسة، حتى رزقها الله بسيدة وضعت لها ٣ عبوات مناديل كبيرة قائلة لها "ربنا يوسع رزقك بيها" وأصبحت تجارتها الوحيدة بيع المناديل بالشارع للحصول على قوت يومها بدون أن تحتاج أن تمد يدها لأحد.

وعن برودة الشتاء تقول سعدية: "ربنا كرمني وواحد ابن ناس اشتري علبة مناديل مني بـ٥٠٠ جنيه.. نزلت جبت بيها عباية بدل اللي اتقطعت مني".. وأشارت إلى أنها احتفظت بباقي الـ٥٠٠ جنيه "لخرجتها" وأنها تحاول أن تدخر مبلغا يوميا استعدادا لليوم الذي يتوفاها الله فيه حتى لا تكون ثقيلة على الناس قائلة: "أنا تقيلة على عيالي.. بحاول أبقى خفيفة على الناس أما روحي تطلع ألاقي حد يترحم عليا".. وأشارت إلى أنها كانت تجلس وترتجف من شدة البرد في الأسبوع الماضي، فوجدت سيدة تتنازل عن الشال الخاص بها ووضعته على ظهرها، وذكرت أنه عند اشتداد البرد عليها تقوم بجمع أكياس بلاستيكية وتضع يديها وقدمها فيهم، وأحيانا تضع رأسها داخل أحد تلك الأكياس في محاولة للتدفئة نفسها.

مع انخفاض درجة الحرارة يجلس الرجل السبعيني في شارع المرور ببنها، تحديدا في منتصف الشارع،حيث يرتدي جلبابا أبيض وجاكت ممزقا أكله الزمن ومليء بالثقوب ولا يوجد حتى حذاء يستر قدميه، الجميع يعرف ملامحه وتعود على الوجود في الشارع في كل يوم، يحاول أن يدخله نفسه في ملابسه التي لا تكاد تستره ويختبئ داخلها محاولا أن يوهم نفسه بأنه بتقي البرودة والرياح.. أوضح كريم محمد أحد أهالي المنطقة أن الجميع لا يعرف له اسما وحاولوا التحدث معه، ولكنه ينظر إليهم في ترقب دون أن يجيب، وأحيانا يتمتم بكلام غير مفهوم، ومن يستطيع مساعدته يعطي له المال أو الطعام، يضعه أمامه وهو لا يصدر أي رد فعل أو يتحرك.

مشيرا إلى أنه حاول أن يأخذه إلى مديرية التضامن الاجتماعي ليوفروا له دارا ولكن الرجل مسن للغاية ولا يقوي على التحرك، وطالب محمد بنقل الرجل إلى دار إيواء أو أي مكان مخصص له، لأن الرجل حالته سيئة للغاية فهو يظل يرتعد من البرد وهو جالس في مكانه، ثيابه مقطعة ولا يستطيع تحمل انخفاض درجات الحرارة، وواضح من مظهره أنه يعاني من عدة أمراض ويحتاج الرعاية.

كانت مدينة الخانكة قد شهدت منذ أسبوعين ظاهرة مشابهة لمسن تأكل الحشرات والذباب في جسده بالقرب من مستشفى الخانكة للصحة النفسية، وهو لا يقوى على التحرك، تم التواصل مع دار بسمة للإيواء التي أخذته واكتشفت أنه شاب صغير وعالجته.

"نقلا عن العدد الورقي.."
Advertisements
الجريدة الرسمية