رئيس التحرير
عصام كامل

عندما تغيب الدولة يصبح الخطأ مباحا!


من المعلوم بالضرورة أن كل فراغ يملؤه المغامرون، ويصبح خرابات تسكنها الزواحف والحشرات، وقد كثرت الخرابات بعد أن تخلت الدولة عن أدوارها الرئيسيّة في الإسكان فانتشرت العشوائيات منذ السبعينيات وصارت سرطانات، حتى استيقظت مؤخرا في عصر السيسي وإتجهت للإسكان الاجتماعي، وكان السبب الرئيسي في قوانين الإيجار الظالمة التي جعلت الملاك يحجمون عن البناء في الإسكان الشعبي، مما خلق فجوة كبيرة بين العرض والطلب..


مما أدي لابتكار فكرة التمليك البعيدة تماما عن ثقافة المصريين، ولكنها كانت الحل المثالي لمواجهة عجز الدولة عن صياغة قوانين عادلة بين طرفي العملية التعاقديّة -المالك والساكن-، ونفس الفوضي حدثت عندما تقلص دور الدولة في النقل الجماعي انتشرت الميكروباصات بدون ضابط يحكمها، فخلقت لنفسها إمبراطورية تعيث الفوضي في الشوارع..

وعندما تخلت عن المراقبة والمتابعة في المدارس انتشرت الدروس الخصوصية، وغضت الطرف عن مراكز تلك الدروس فأصبحت تلعب دورا موازيا للمدارس ولكن بالملايين، وعندما غلفت كثيرا عن تطوير الكتاب المدرسي قامت مكتبات شارع الفجالة والأزبكية بالدور الغائب للوزارة وأصبح الكتاب الخارجي هو المعتمد للتلاميذ وأولياء الأمور..

وفى الإعلام.. أهملت ماسبيرو والقنوات الرسمية وراحت تخلق قنوات موازية وتصرف عليها ما لم تصرفه على قنوات الشعب وكان من المنطقي أن تهجر الكفاءات ماسبيرو لمدينة الإنتاج الإعلامي، ثم ظهرت مئات القنوات العشوائية للرياضة والسحر والدايت والرقص والنصب وسرقة الأفلام من دور العرض، مما أدي لتدمير صناعة السينما..

وعندما ألغوا قطاع الإنتاج لم يعد أحد ينتج أي دراما محترمة، وتركوا الساحة خالية فكان من المنطقي أن تغزو الدراما التركية والهندية البيوت عبر قنوات مشبوهة، وبعدما كان المسلسل والفيلم هما سفراء ولسان مصر للناطقين بالعربية..

وعندما قضوا على صوت القاهرة لم يعد أحد ينتج أي أغان، وبالتالي إختفت وغيبت عمدا الأصوات المصرية الجميلة ولم نعد نسمع على الحجار ومحمد الحلو وأنغام وآمال ماهر إلا في حفلات محدودة، وحتى مهرجانات الأوبرا الغنائية لم تقدم أي أصوات جديدة واكتفت بدعوة بعض من يدعون الغناء من العرب إلا قليلا..

فكان أن انتشرت أغاني التكاتك، وظهرت تلك النماذج حمو وشطة وشعبان وانتشر صراخ التكاتك كثقافة طبيعية للعشوائيات، ولذا يبدو السؤال عن أسباب ذلك سؤالا سخيفا يتجاهل الواقع ويقفز عليه إما تبريرا أو تعزيزا.. وفِي كل الأحوال تظل الدولة مسئولة حيث ظلت تغض الطرف عن انتشار وترخيص التكاتك في الحواري، ثم في الشوارع الجانبية حتى أصبحت في الشوارع والطرق الرئيسيّة وبالملايين ولا تزال الدولة ترفض وتتباطأ في تنظيمها وترخيصها..

بالرغم من أن ذلك سيحمي أرواح الناس من تهور الصبية السائقين وحوادثهم، ثم إن الترخيص سيدر مئات الملايين لخزينة الدولة المجهدة، وطال الزمن أم قصر ستقوم بترخيصه، وهكذا تسبق العشوائية دوما الدولة بخطوات دون أن تتعلم السلطة وتظل تكرر غض الطرف، حتى يصبح الخطأ واقعا فتقوم يتقنينة وهو نفس ماحدث في البناء على الأراضي الزراعية الخصبة فاتجه الناس لاستصلاح واستزراع الأراضي الصحراوية..

وعندما تعلم المستصلحون طرق الزراعة الصحراوية رفعت الدولة أسعار الأراضي بطريقة تعجيزية، وحتى في الرياضة بدلا من تركز الدولة جهودها في مراكز الشباب وتحتوي الغالبية من الشباب في المحافظات والمدن والقري راحت تهدر موازنة الشباب والرياضة ووقتها في حل مشكلات كرة القدم للأندية الكبيرة، بل أن تلك الأندية كان من المفترض أن تكون مصنعا لإنتاج مئات الرياضيين المحترفين راحت لأسهل الحلول بخطف أي لاعب متميز في الأندية الصغيرة، وتدفع فيه عشرات الملايين رغم أنها لو دفعت تلك الملايين على الناشئين لأفادت واستفادت وساعدت في تنمية الأندية الصغيرة بدلا من تدميرها بخطف أي متميز منها..

وحتى ظاهرة الألتراس وغلو وتطرف بعضها هي الأخرى من صناعة الدولة، عندما شجعت على قيامها لتشجيع المنتخب، فكان أن تغول بعضها حتى على الدولة، والخوف الآن بصراحة من الفراغ المدمر في الجامعة في ظل اللائحة المهترئة التي تنظم نشاط الطلاب بالجامعات، مما أدي لأن تصبح معظم الانتخابات صورية وفوز الغالبية بالتزكية للأسف مما قضى على الحيوية التي تصاحب تلك المرحلة العمرية، وتجعل الطلاب لا يثقون في كل ما هو رسمي، ويتجهون لملء فراغهم بطريقتهم الخاصة بعيدا عن العيون..

وبعد كل ذلك يسأل البعض ببلاهة عما حدث لهذا البلد، والحكاية باختصار أنه [عندما تغيب الدولة يصبح كل الخطأ مباحا].

الجريدة الرسمية