رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«خالص مالص بالص»


يظن كل وزير في الحكومة المصرية الحالية أن تواجده في الوزارة مرهون بجلب الأموال لوزارته، سواء من رفع الأسعار أو فرض الضرائب، فهذا الأمر هو الذي يجعله محبوبا من القيادة السياسية؛ لذا نجد وزير المالية وفي ظل الظروف التي يعيشها الشعب المصري البسيط من ارتفاع أسعار كل شيء، واكتوائه بنار الحياة في هذه الفترة، وتحمله فاتورة الإصلاح الاقتصادي وتعويم الجنيه ورفع أسعار الطاقة، فيأتي وزير المالية ليعيد الضريبة العقارية للوجود..


ويذكر الوزير أن ما يتردد عن عدم دستورية قانون الضريبة العقارية غير صحيح، وأن قانون الضرائب العقارية صدر عام 2008 وتم تعديله عام 2013 وهو مطبق وسارٍ منذ ذلك التاريخ، والضريبة على العقارات المبنية مطابقة للدستور طبقًا لحكم المحكمة الدستورية العليا والتي قضت في عام 2002 بدستورية فرض ضريبة عن الوحدات العقارية التي لا تدر دخلا.

وشدد الوزير على أنه سيتم تطبيق القانون على كل من يتقاعس عن سداد حقوق الخزانة العامة للدولة، مؤكدا أن الضريبة العقارية مطبقة في مصر منذ ما يزيد على 200 سنة تحت اسم "العوايد".. وطالب الوزير الممولين بسرعة سداد الضريبة "وإلا سيتحملون الغرامة التي حددها القانون أو سيتم الحجز الإداري على وحداتهم العقارية".

والسؤال الذي نوجهه لمعالي الوزير هل ترى أن هذا التوقيت مناسب لإعادة مثل هذه الضريبة على عموم الشعب المصري من الكادحين؟ وهل يصح فرض ضريبة على إنسان بنى منزلا لأولاده حتى لا يقفوا في طابور من يسعى لشقة من شقق وزارة الإسكان فاشترى الأرض وأدخل المرافق وتحمل ضرائب متنوعة وأموالا طائلة من حر ماله حتى اكتمال البناء فإذا الحكومة تفرض عليه ضريبة جديدة دون أدنى مراعاة للملكية الفردية غير الربحية؟!

وهناك إشكالية يجب أن تؤخذ في الاعتبار وتؤدي إلى عدم دستورية الضريبة العقارية، وذلك بناء على أسباب حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 15 لسنة 10 قضائية بتاريخ 19 يونيو 1993: الذي نص: «لا يجوز أن تفرض الضريبة ويحدد وعاؤها بما يؤدي إلى زوال رأس المال المفروضة عليه كلية أو الانتقاص منه بدرجة جسيمة، فما لذلك الغرض شرعت الضريبة، وما قصد الدستور أن تؤدي في نهاية مطافها إلى أن يفقد المواطن رأس المال المحمل بعبئها ليؤول تنفيذها في النهاية إلى فقدان وعائها أو الانتقاص الجسيم منه».

بمعنى أن العقار الذي لا يدر دخلا وإنما يقام للسكن فقط أو كان يدر دخلا بسيطا لا ينبغي أن يخضع للضريبة العقارية وإلا أدت هذه الضريبة مع الوقت لتأكل رأس المال نفسه وهذا غير دستوري، وهو الأمر الذي يقوم به وزير المالية من خلال قانونه الجديد، حيث يخضع العقارات غير الربحية أو حتى التي أرباحها بسيطة للضريبة العقارية، وهو أمر غير دستوري وإن ادعى أنه غير ذلك.

ففرض ضريبة على رأس مال لا يغل دخلا وبطريقة دورية متجددة، ولفترة غير محددة مع زيادة تحكمية مفترضة في قيمة الضريبة السنوية المستحقة عليه، ينطوي على عدوان على الملكية بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور، كما يناقض مفهوم العدالة الاجتماعية الذي نصت المادة 38 من الدستور على قيام النظام الضريبي على أساسه.

فرض ضريبة جديدة ليس هو الحل الأمثل لزيادة حصيلة الدولة المالية وإلا عاد بنا الحال إلى عصر الظلام المملوكي، ‏‏في العصر المملوكي كانت الضرائب هي الحل الأسهل في نظر المملوك‏، ففرض ضريبة على المسافرين بين أقاليم مصر مع ختم كل مسافر بخاتم خالص كعلامة على السداد‏، بيد أن الإسراف السفيه التهم حصيلة هذه الضريبة‏، فاضطر المملوك الحاكم إلى فرض ضريبة أخرى عند عودة المسافر إلى إقليمه بخاتم آخر هو مالص‏، ومن هنا سري فينا التعبير الشعبي خالص مالص‏، نردده كلما وجدنا أنفسنا على الحديدة وظهرنا إلى الحائط لا ندري ماذا نفعل‏.‏

ويقال إن الفاطميين أول من بنوا سورًا حول العاصمة في مصر الإسلامية، فكانت الفسطاط من قبلهم مدينة بلا أسوار لفترة طويلة، وكان الغرض الأساسي من بناء السور ليس الدفاع عن المدينة، ولكن إحكام السيطرة على مداخل المدينة حتى لا يدخل التجار ببضائعهم إلى أسواقها إلا بعد دفع الضريبة.

وكانت أبواب المدينة تفتح مع أول ضوء للفجر، وتغلق بعد المغرب يوميًا، ويظل التجار يحتشدون على الأبواب ويبيتون بجانبها ليلًا في انتظار فتح مصارعها صباحًا، وكان التجار منهم من يدفع الضريبة بالكامل، فيحصل على صك بأنه (خالص) الضرائب، وله أن يبيع بضاعته في أي سوق أو أي وكالة.

ومنهم من كان يرى أن الضرائب المفروضة كثيرة، فكان يمنح الجنود الواقفين على البوابة لكل واحد بلاص من العسل أو المش أو ماشابه، فيسمح له الجنود بالمرور، وحين التفتيش يقولون لبعضهم البعض اتركه فهو (بالص) أي منحهم بلاصًا أو أكثر.

ومن التجار من كانت تجارته صغيرة لا تتعدى حمولة حمار أو جمل واحد، فكان يسير بها بجوار قافلة ممن دفعوا الضرائب فيعد منها ويتهرب من الضريبة، فلو رآه الجنود في شوارع المدينة يسألون: أهو (خالص)؟، أم (بالص)؟، لتأتي الإجابة من أحدهم: لا هذا ولا ذاك لعله (مالص) أي تملَّص من دفع الضرائب، فيذهبون إليه مطالبين إياه بتقديم صك الدفع، فتواردت الكلمة على لسان العامة فيما بعد خالص.. مالص.. بالص.
Advertisements
الجريدة الرسمية