روجيه جارودى
حدد لي روجيه جارودي موعدا في بيته خارج باريس، وشرح لي كيف أصل إليه في عليائه.. كنت أسير متوجها إلي بيت روجيه جارودي، وعقلي يفكر في أول مرة سمعت باسمه، والحوار الذي أجرته إحدي المجلات معه لعلها «صوت الأزهر» إذا لم تخني الذاكرة.
ولأنني كنت مشغولاً بدراسة الإمام محمد عبده، الذي أعتبره صوت العقل «العملي» في الدين الإسلامي، أقول "كنت أري أن روجيه جارودي أكثر «إشكالية» من محمد عبده أو إن شئت فقل كان دون الأستاذ الإمام بمراحل.. كنت أفكر في أنني سوف ألتقي برجل كل ما يقال عنه في مصر إنه استقر دينيا علي الإسلام بعد أن تخلي عن كاثوليكيتيه ثم تمرد قليلا علي الماركسية ووضع فيها مؤلفات شتى.. وأخيرا دخل الحظيرة الإسلامية.
طرقت الباب ففتحت لي زوجته، وبعد عدة دقائق هبط الرجل، ما أن حضر حتي انسحبت السيدة التي كانت تثرثر معي، واكتشفت أن الدور الأرضي في الفيللا كان أشبه بمكتبة مليئة بالرفوف التي وقفت أمامها بينما كان يشرح جارودي بعض كتبه الخاصة بالعنصرية..
ثم عرفت أنه لا يعرف من اللغة العربية سوي كلمة السلام عليكم أو صباح الخير.. شأنه في ذلك شأن كل من يدعي أنه يعرف اللغة العربية!، واندهشت أنه رجل مهتم بالدين الإسلامي وحضارته وتاريخه، ولا يعرف اللغة العربية التي نزل بها قرآنه المجيد.. ثم تطرق بنا الحديث عن نبي الإسلام، وهالني أن الرجل يري فيه ما لا نراه.. وأول هذه الأشياء التي صدمتني هو قوله بأن النبي محمد «صلي الله عليه وسلم» لم يكن شخصاً أمياً.. بل كان رجل أعمال ناجحاً بمعايير عصره..
أقول الحق.. لم أعلق واكتفيت بتوجيه الأسئلة لكي أعرف المزيد عن هذا الرجل الذي كنت أجهله ولم يسبق أن التقيت به قبلاً.
أذكر أنني عرفت منه أنه أعلن إسلامه في باكستان بعد أن اعتنق الدين الإسلامى في سفارة المملكة العربية السعودية هناك..
ثم جاءوا بأحد المشايخ وظل السفير وعدد من الدبلوماسيين يتحدثون معه.. بعد أن طلبوا منه أن يجلس بالقرب منهم.
وبعد نقاش قرروا إطلاق اسم «رجاء الدين» علي الرجل باعتبار أن اسم «رجاء» أكثر الأسماء قربا من اسمه الأصلي روجيه!!.
وعرفت أنهم قاموا بتعريب اسمه علي هذا النحو، لكي يكتبوا اسمه الجديد في الشهادة الممهورة باسمهم، والتي تشير إلي أن الرجل اعتنق الدين الإسلامي.
ولقد تعجبت من روجيه جارودي وهو يقول معلقا: فوجئت بأن اسمي أصبح «رجاء» لا «روجيه».. وأدهشني أنهم يربطون الإسلام بالعروبة: فمن قال إن الدين الإسلامي الذي جاء للناس كافة، يدخله من يشاء وقتما يشاء، هو دين جاء خصيصا للعرب.. بمعني آخر، لماذا يصر السفير وزملاؤه من الدبلوماسيين علي «إلباس» الدين الإسلامي جلباباً وعقالاً.. ثم ما الذي يمنع أن يكون اسمي «روجيه» وأن أحتفظ باسمي الفرنسي عندما أعتنق الدين الإسلامي؟، أليس ذلك ترجمة حقيقية للدين الإسلامي الذي بعث للناس كافة!!..
عرفت بطريق المصادفة أن روجيه جارودي كان زوجا لسيدة من أصل فلسطيني.. قبلت أن تكون الزوجة الثانية.. وسألنى إذا كنت أعرف سفير دولة قطر في باريس فقلت نعم، فقال إنني أريد تأشيرة دخول.. وكذلك زوجتي تريد تأشيرة من الأردن، في نفس الوقت..
كان لقاؤنا في اليوم التالي في مكتب سفير قطر.. وأذكر أنه احتفي بروجيه جارودي.. وأخذ يناقشه في المركز الذي أقامه لحوار الأديان في إسبانيا.. وسهل له تأشيرة الدخول وكذلك أبرق لسفارة قطر في الأردن لكي تمنح زوجة جارودي تأشيرة الدخول أيضاً..
وعندما رجعت إلي بيتي.. فتحت مظروفاً كان قد أعطانيه روجيه جارودي بنفسه فوجدت فيه بعض أعداد من مجلة كان يصدرها باللغة الفرنسية اسمها «شمال جنوب»، حاول أن يحصل من سفير قطر علي دعم مالي لها.. لكنه لم يجد غير التسويف والمراوغة وكنت عرفت أن روجيه جارودي يعتمد في إصدار هذه المجلة علي عدد من الطلبة المغاربة الذين يقومون بأمور الترجمة والطباعة والتوزيع مقابل أجر رمزي..وكانت تتحدث عن إفلاس المجتمع الغربي وحضارته المزيفة والقيم الإنسانية الغائبة عنه.. مؤكداً في دراساته أن الانتحار يحصد شباب أوروبا وكذلك تقضي عليهم المخدرات.
والتقيت به بعد سنوات في معرض كتاب القاهرة، وكتبت عن الندوة التي أقامها في المعرض.. وهالني أنه عاد أكثر وجدانية وغابت لغة العقل عنه، فتحدث عن الدين الإسلامي حديثا غير مثمر.. ولا شك أن أفكاره الجامدة بهذا الشكل قد راقت الكثيرين..
وأخيراً.. إذا حدث وخطر روجيه جارودي ببالي، سألت نفسي مرارا وتكراراً: لماذا كذب علي روجيه جارودي ولم يقل لي أن السيدة التي فتحت لي الباب هي زوجته؟.. ولماذا لم يعرفني بها أصلا؟.. ثم لماذا أخفي زواجه من السيدة الفلسطينية التي طلب إعطاءها تأشيرة دخول من الأردن إلي قطر.. ثم ما سبب تحوله من العقلانية إلي الجوانية في فهم قيم الدين الإسلامي.. إنها أسئلة ستظل تبحث عن إجابة!..
