رئيس التحرير
عصام كامل

السائح والفاجر والخراب

18 حجم الخط

هل تستطيع عزيزى القارئ أن تتكهن بما يمكن أن يكون عليه الوضع فى مصر، بعد خمس سنوات؟، وهل تستطيع أن تتصور ما يمكن أن يكون عليه الوضع فى لبنان؟، هل تقدر أن تتنبأ بما يمكن أن تكون عليه سوريا؟، هل تستطيع الجزم بأن الأردن سيكون مستقراً؟، هل تستطيع الإجابة عما سيكون عليه العراق؟، وهل صحيح أن الإعصار تخطى مرحلة إطاحة الحكومات ليصل إلى التهديد بتمزيق بعض الخرائط على وقع حروب الكراهية بين المكونات؟.


أعرف عزيزى القارئ أنك لا تستطيع تقديم جواب أكيد ومقنع ومتفائل، وأعرف أنك تميل إلى اعتبار المستقبل القريب قاتماً، كى لا نقول كارثياً، ولأن الأمر كذلك، يصعب عليك أن تطالب سيد البيت الأبيض بأن ينوب عن حكومتك فى المطالبة باستعادة الحقوق الفلسطينية والعربية..

 الحقيقة أننى احتراماً لمشاعرك، لم أفتتح الأسئلة بالسؤال الجوهرى وهو: هل تعتقد أن النزاع الفلسطينى الإسرائيلى لا يزال يحتل الصدارة فى أجندات هذه الدول التى تتلوى على ألحان الحروب الأهلية أو تستعد لها؟.

كانت صورة باراك أوباما وبنيامين نتانياهو قاسية، وصادمة، ومستفزة.. ليس لأنها الزيارة الأولى لإسرائيل التى يقوم بها أوباما رئيساً، وليس لأن أوباما يفتتح بها ولايته الثانية، وليس لأن العالم يعرف أن الود مفقود أصلاً بين الرجلين. وأن نتانياهو خاض بوقاحة، وعلى مدى سنوات، حرباً على الأرض الأمريكية لتأديب الرجل الجالس فى المكتب البيضاوى وتطويعه.. ليس فقط بسبب كل ذلك، بل قبله بسبب المشهد العربى المريع.

شعرت أمام الصورة بالإحباط، بالقهر، بالذل، وبالعار أيضاً.. مذ كنت صغيراً وأنا أقرأ عن «العدو الغاشم»، وها هو رئيس حكومة العدو الغاشم يستدعى رئيس الولايات المتحدة فى لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، استدعاه ليبلغه أمام الشاشات أن إسرائيل «لا يمكن أن تتخلى عن حق الدفاع عن نفسها حتى لأقرب حلفائها».. جاء ذلك بعد وقت قصير من افتتاح أوباما رحلته «الاستكشافية» بالتشديد على صلابة العلاقات «الأبدية» بين الدولتين، وبوقاحة استثنائية، تحدث نتانياهو عن إيمان حكومته بـ «حل دولتين لشعبين»، متناسياً أن مستوطناته تلتهم يومياً ما تبقى من أراضى الفلسطينيين وحقوقهم.

خذ منظاراً عزيزى القارئ، وحدّق فى المنطقة.. ذهب الكيان المصطنع إلى انتخابات، عكست نتائجها انقساماته وتشظى مجتمعه، المخاض الطويل انتهى بتشكيل حكومة تطمئن المستوطنين وتضاعف شهياتهم المفتوحة، هذا صحيح.. لكن الإسرائيلى يستطيع الادعاء أن لديه حكومة تستطيع الاجتماع واتخاذ القرار والدفاع عن مصالح الدولة.

هل تستطيع عزيزى القارئ أن تخبرنى عن إنجازات حكومة هشام قنديل، عن إنجازاتها فى الأمن والاستقرار والازدهار، وفى طمأنة المواطنين إلى "خبزهم" و"كرامتهم" و"حقوقهم"، هذا من دون أن ننسى طمأنة المستثمرين والمقرضين والسياح، أعرف الجواب، وأنت تعرفه.

هل تستطيع عزيزى القارئ أن تطلعنى على إنجازات السلطة السورية.. لا شك فى أنها منتجة، كانت سوريا تنتج مائة جثة فى اليوم، فى الأسابيع الماضية ازدهرت هذه الصناعة، صار المعدل اليومى أعلى، وأدى «الازدهار» إلى تحويل الحدائق العامة إلى مقابر عامة، يمكن تسجيل التقدم نفسه فى إنتاج الأرامل والأيتام.. الازدهار متواصل، وبدل العيش فى ظل حكومة واحدة، ستعيش سوريا، على الأقل لفترة، فى ظل حكومتين، وستكون الحروب طويلة ومريرة مع النظام أولاً ثم مع من هبّوا لـ «نصرة» الشعب السورى.

أعفيك عزيزى القارئ، من قراءة الوضع العراقى، فحكومة نورى المالكى تغرّد فى وادٍ، فيما تغرد المكونات الأخرى فى أودية أخرى، العملية السياسية تلفظ أنفاسها، تحرر العراق من الاحتلال وتفرّغ لإنجاز التفكك بين المكونات.

الحكومة اللبنانية صندوق عجائب وويلات، الاقتصاد مريع، الأمن مريع، العلاقات المذهبية مريعة، إطلالات السياسيين مريعة، البلد الذى أعلن قبل سبع سنوات انتصاره على العدو الغاشم، يستعد الآن للجلوس تحت الركام، مؤسساته مخلّعة.

حكومته تشبه أرخبيلاً من الجزر غير المتحدة، لكل حفنة وزراء استراتيجية ومرجعية، كل وزير يغرّد على ليلاه، أُصيبت البلاد بتخمة فى الأقوياء، وتعانى نقصاً رهيباً فى الحكماء.

لن أتطرق إلى الوضع الفلسطينى، بلغ التدهور حداً جعلنا نحتفل بصورة تضم محمود عباس وخالد مشعل ونعتبرها إنجازاً تاريخياً.

عزيزى القارئ، إذا كان الخراب العربى بهذا الحجم ومرشحاً للتصاعد والانتشار، فلماذا يمارس أوباما ضغوطاً على نتانياهو، ولماذا يمتنع عن الإدلاء بتصريحات مريعة؟، غداً يغادر السائح عائداً إلى بلاده ويبقى الفاجر مقيماً مع ترسانته وجرّافاته، ويتسلى العربى بإحصاء عدد اللاجئين والحروب الأهلية وقوافل الأيتام وطاولات الحوار الوطنى من بيروت إلى صنعاء.

نقلاً عن الحياة الندنية..

الجريدة الرسمية