رئيس التحرير
عصام كامل

حيازة السلاح.. هل صارت حلا؟!


رغم كثرة الأحداث الجارية التي تعج بها البيئة المصرية في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد، فترة يختلط فيها كل شيء فلا يستطيع عاقل أن يُمَيّز فيها الخبيث من الطيب.. ولا الإنسان الوطني من الذي باع ضميره من أجل البقاء في السلطة أو الولوج إليها.. فترة لم يختلف المثقف فيها كثيرًا عن الجاهل.. فالكل في حيرة والكل يشعر بالقلق والكل يتساءل.. ولم يحفظ هذا الوطن من الفتنة سوى بعض من الإيمان، الذي وقر في قلوب بعض من بسطاء الوطن، بأن الله لن يضيع مصر وهو خير الحافظين. 


ورغم كل ذلك فقد فَضَلت أن يكون موضوع المقال في منطقة بعيدة عن مرمى الأحداث.. وهو الحديث عن تجارة "الأسلحة" والتي راح ضحيتها آلاف من شبابنا الأبرياء من المدنيين والعسكريين على حد سواء.. ظاهرة أَعُدُهَا راعية لمعظم المشكلات والجرائم التي نعيش آثارها البالية، فلا إرهاب ولا قتل بدون سلاح.. ولا تجارة مخدرات بدون أسلحة تحميها!

وبدلاً من اهتمام الدولة بمحاربة هذه الظاهرة واستئصال تجارتها، فقد اكتفت فقط بمحاربة الجرائم التي تنتج عنها، كعادة الدولة دائمًا -كما ذكرت في مقالي السابق- تُضَيِّع وقتها ومورادها في مطاردة العفاريت، دون اهتمام بتطهير المجتمع من الخرابات التي تسكنها تلك العفاريت.

وإذا كانت حيازة الأسلحة تجارة راجت في المجتمعات الصعيدية والقبلية في مصر قبيل ثورة يناير وعلى مدى سنوات طويلة.. فقد ازداد انتشارها بقوة وبصورة واسعة في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير؛ حيث تفشت الفوضى وحالات الانفلات الأمني.. وجُعِلت الأفراح ميدانًا يستعرض فيه المواطنون أنواع الأسلحة التي يحوزونها.. والتي تسببت بشكل كبير في ارتكاب عديد من الجرائم التي لم يُعرف مرتكبها حتى الآن.. والتي تسببت أيضًا في تعطيل استقرار البلاد.. بل وتوحشت حتى أفرزت لنا مواطنًا قادرًا ليس فقط على حمل السلاح، وإنما أيضًا على تصنيع القنابل والمتفجرات!

وليس ذلك فحسب بل أنتجت فِرَقًا من الشباب استحبت واستسهلت حمل السلاح، من خلال تشكيل عصابات إجرامية خطيرة، أعطت لنفسها الحق كاملاً في رفع السلاح في وجه الدولة، كعصابة بيت المقدس وأجناد مصر والسلفية الجهادية وولاية سيناء وداعش والعقاب الثوري وكتائب حلوان وغيرها.. والغريب ليس فقط في رغبة الناس في حمل السلاح وإن أفضى إلى الموت.. وإنما الأكثر غرابة هو كيف حصل هؤلاء الناس على الأسلحة؟

وهل حصلوا عليها بعيدًا عن مباركة بعض من رجال الشرطة الفاسدين؟ خاصة وأن معظم الدراسات التي أجريت على هذه الظاهرة تثبت تورط بعض من رجال الشرطة في تسريب هذه الأسلحة إلى المدنيين.. وأنه لا توجد عصابة متخصصة في تجارة الأسلحة إلا ويكون أحد أفرادها على الأقل من رجال الأمن!

ولعل تباطؤ القضاء في تنفيذ الأحكام، وفساد بعض رجاله، بالإضافة إلى فساد بعض ضباط الشرطة، دعى الكثير من المواطنين إلى حمل السلاح، إما لحماية أنفسهم وممتلكاتهم، أو لاستعادة حقوقهم المسلوبة.. ناهيك عن ثقافة الثأر التي تأصلت في الضمير المصري.. والتي تحتاج إلى مجهودات جبارة من رجال الدين والثقافة والإعلام لإعادة هيكلة موروثاتنا الثقافية.. وجعل حيازة السلاح ليست فقط جناية أو من المحرمات القانونية.. وإنما أيضًا من المحرمات الاجتماعية التي يرفضها الضمير الإنساني.

ورغم خطورة الأسلحة وجُرم حيازتها، ورغم أن هناك اتفاقًا دوليًا على تجريم تجارتها وعدم حيازتها إلا بضوابط خاصة، فإن تجارة الأسلحة المرخصة على مستوى العالم قد بلغت ما يقرب من 21 بليون دولار سنويًا، وأن هناك 639 مليون قطعة سلاح صغيرة في العالم، أي بمعدل قطعة لكل عشرة أشخاص، ينتجها ما يزيد على ألف شركة في 98 دولة على الأقل، تنتج ما يقرب من 16 بليون وحدة ذخيرة كل عام، أي بمعدل أكثر من رصاصتين لكل رجل وامرأة وطفل على ظهر المعمورة! والصادم في الأمر أن نحو 60% من الأسلحة الصغيرة توجد بحوزة مدنيين!

وإذا كان الفقر يُعَد دافعًا أساسيًا لحمل السلاح في كثير من البلدان كما في صعيد مصر، فإن حيازة الأسحة وتجارتها عادة ما تفضي بهم إلى الفقر وتدمير سبل العيش.. فمثلاً تبلغ الخسائر الاقتصادية من جراء الحروب الأهلية في أفريقيا نحو 15 مليون دولار كل عام، كما تبلغ قيمة النفقات العسكرية في باكستان نحو ثلث الدخل القومي أو نصفه؛ إذا ما أضيفت أقساط وفوائد الديون المتعلقة بالأسلحة.

ورغم تمسك الناس بالحياة.. وإصدار مواثيق دولية، جعلت الحق في الحياة في صدارة الحقوق الإنسانية، فإن ما ينفقه العالم من أجل الموت، يعد أضعاف ما ينفقه على الحياة! ففي ثلث دول العالم تزيد قيمة نفقات التسلح وإعداد الجيوش عما ينفق على خدمات الرعاية الصحية والتعليم على حد سواء.

وإن أكثر الدول إنفاقًا على الأعباء العسكرية هي أقلها تمامًا في معدلات التنمية البشرية، فمثلاً تنفق دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على الأسلحة قرابة 22 بليون دولار في المتوسط كل عام، ونصف هذا المبلغ يكفي لتوفير التعليم الأساسي لكل فتى وفتاة في هذه البلدان!

وفى كثيرٍ من الدول العربية -ومن بينها مصر- أتصور الوضع ليس أفضل بكثيرٍ من أمريكا اللاتينية وأفريقيا والسيلفادور.. فأعتقد أن ما يُنفق على تسليح الجيوش وتجارة الأسلحة يكفي بشكل كبير لأن يتمتع سكان هذه البلدان بمستويات معيشية رفيعة، من الرعاية الصحية والسكن والتعليم.

وإذا كان الناس يبررون حَملِهم السلاح بغياب العدالة والدفاع عن النفس، في مجتمعات باتت الحياة فيها غير آمنة.. وتبرر الدول تضخم ميزانية جيوشها بحجم المؤمرات التي تحاك ضدها.. ورغم منطقية هذه المبررات جميعها.. فإن "الفساد" يظل هو الدافع الأساسي لحمل السلاح، وانتشار تجارته وتضخمها.. ويظل مصدرًا مهمًا لإفقار الشعوب وتخلفها، هو مصدر تُغَذيه دولٌ كبيرة، تعرف جيدًا ماذا تريد.. وقيادات وشعوب غبية عجزت عن تقدير الموقف، والارتقاء بنفسها نحو مستقبل أفضل.
الجريدة الرسمية
عاجل