رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون على القهوة!


لم يُلق على سمعى العبارة الشهيرة "فوت علينا بكرة" بعد أن تفحَّصنى جيدًا من فوق لتحت عدَّة مرَّات من أعلى نظارته، ولعمرى لم أفهم لماذا يستخدم الناس نظارة طبية خاصةً أنهم يتطلعون للأشخاص والمرئيات من فوقها، ولو شرعوا في القراءة، فإنهم يخلعون النظارة خالص، طيب ليه بتخنق وجهك وأنفك ما دُمت في كُل الأحوال مستغنيًا عن النظارة؟!


عمومًا هذا ليس موضوعنا، ومَط حضرته شفتيه بامتعاض ليس له ما يُبرره بالنسبة لى على الأقل، وقال "اصبر خمسة"، ثم ألقى بنردى الطاولة (النرد هو الزهر) وأطلق صرخة انتصار، وهو يهتف بمرح شديد يتناقض مع سخطه على حضرتى "دوسة.. دوسة.. والحلوة دوسة جات بعد حوسة" ورزع القشاط الأسود فوق قشاط أبيض بنشوة شديدة، وتخيَّلت أن أغنية الست (ياسمين الخيام) ستنطلق في أجواء المقهى صادحة "وتعيشى يا مصر في عزِّة ونصر مرفرف فوقنا علم ونشيد الله الله الله.. المصريين أهما حيوية وعزم وهمَّة"!

كُنت قد قضيت عدة أيام باحثًا عن حضرته، الأستاذ (معوض الصقر) أحد موظفى مجلس المدينة، الأمر في حاجة لإنهاء بعض الأوراق، وأخيرًا اعترف ولاد الحلال بمكانه، أو بالأصح نساء الحلال لا سيما أن المكتب لا يوجد به إلا سيدات وآنسات مُحترمات فحسب، ما جعلنى أتخيَّل أننى في مقر المجلس القومى للمرأة، وقالت لى إحداهن مشفقة على حالى وهى تواصل تقوير الكوسة، وتزغر لزميلة لها انشغلت لشوشتها في رتق بعض الشرابات الرجالى، وتركيب عدة أزرار في قمصان رجالى وأطفالى؛ لتنهاها عن محاولة إثنائها عن الأمر وهى تقول "الراجل دايخ ورا المخفى بقاله كام يوم، والدُنيا حَر" من حُسن الحظ إننا كُنا في الصيف وإلا ما أشفقت علىَّ، وأضافت "انزل يا أستاذ على القهوة اللى قُدام كشك الجرايد هتلاقيه قاعد فيها، خلَّص مصلحتَك هناك"!

ولما سألتها بذهول شديد عن سبب غيابه عن مكتبه، قالت بعد ضحكة خبيثة تبادلتها مع زميلة أخرى تقوم بتقطيع القرنبيط وتخريع الكرنب "أصله مبيحبش ريحة القرنبيط، ولا بيقدر يسيب الشيشة من بؤه، وإنت الدلعدى كُلَّك نظر وأكيد فاهم إن مينفعش الشيشة تطلع المكتب، المكان له احترامه برضو"!

راعيت احترام المكان، وتوجهت للمقهى سائلًا عن حضرته حتى كان ما كان، وبعد أن انتهى من رفع العلم، وتلقى برقيات التهانى من موظفى ومُديرى المصالح الحكومية الشقيقة، التفت نحوى مُتسائلًا بضجر "عايز إيه؟" قدَّمت له أوراقى وأنا أتحدث بسرعة لا سيما أن مُنافسه في الطاولة كان مُتمسكًا برغبته في التبارى بعشرة جديدة رافعًا شعار "لازم تكفينى"، وقال وهو يُقاطعنى بينما بدأ في لملمة قطع القشاط الأسود مُجددًا ليخوض المُنافسة الإضافية "أول حاجة روح هاتلى توقيع أستاذ (عبد البارى) من على تالت ترابيزة، واشترى لى طوابع دمغة بخمسة وعشرين جنيه من عمَّك (مسعد) اللى قاعد برَّة في الشمس وفى إيده كوباية الحلبة، واستنى على ما (حامد) بيه يخلَّص دور الشطرنج وخلية يقدَّر لَك الرسوم، واوعى تقاطعه وهو بيلعب لا يخرب بيتَك، أحسن هو بيحب يركز وبيكره الخسارة موت"!

قُمت بتنفيذ تعليمات لائحة العمل في المقهى بحذافيرها، وقال لى أحد عُمال المكان مُشيدًا بالتجربة والنظام "ده علشان نقضى على الروتين يا أستاذ، أحسن ما تطلع تتلطَّم في المكاتب، واللى يقول لك اطلع الدور الرابع، وانزل تانى على الأرضى، وهات مش عارف إيه من آخر الطُرقة، وادفع في الخزنة، وإمضى ع السطوح، وولَّع في نفسَك ع السلم، ده نظام كده زى ما بيقولوا في التليفزيون نظام الشبَّاك الواحد للقضاء على الروتين والبيروقراطية"!

لم يخلُ الأمر قطعًا من إنفاق عدة عشرات من الجُنيهات على مشاريب مُختلفة، سحلب، حلبة، شاى فتلة، قهوة مزبوط، شيشة قَص، علبة سجاير من كُشك الجرايد ومعاها نُسخة من عدد مجلة الشبكة، وتمنيت أن يُطالبنى أحدهم بخوض غمار عشرة كوتشينة بداله حتى أقتص منه بتلقى الهزيمة، لكنهم كانوا أذكى من أن يفعلوها!

والحق أقول أن رغم ما كابدته من مشاق مادية ومعنوية، وأيضًا صحية بعدما استنشقت دُخان السجائر والشيشة والبورى بإسراف شديد وأنا أصلًا لستُ مدخنًا، فقد انتهى كُل شيئ في زمن قياسى، قال لى أستاذ (معوض الصقر) بعدما أنهى عشرة الطاولة الرابعة بنصرٍ مُبين ومعه إزازة فيروز أناناس ثالثة على حسابى، وصوت السيدة (ياسمين الخيام) يصدح في خيالى مُجددًا مُصاحبًا لانتصاره "مبروك مبروك مبروك.. مبروك عليكم وعلينا" ـ قال: "دلوقتى إنت مش فاضل لَك غير توقيع المُدير وكدة يبقى كُل شيئ تمام".. سألته بسذاجة "طيب المُدير قاعد على أنهى ترابيزة؟!" وجاء الرد بضحكة هازئة عالية لفتت أنظار الجميع نحونا كأن حادث مرور مُريع ناتج عن قيام أتوبيس بدهس شخص وتفجير جمجمته ودمائه على أسفلت المقهى، وكُل واحد فيهم ساب مشاريبه ـ اللى على حسابى ـ وألعابه وأوراقه وأحاديثه، وهُم يلتفتون نحونا، وأهاننى أحدهم وهو يسأله "الزبون ده سُقع وغلبان أوى يا أستاذ (معوض) جبته منين؟".. وضحكوا مُجددًا قبل أن يعود كُلٌ منهم لمواصلة الشرب واللعب!

فيما بعد كان علىَّ أن أنتظر ـ وقد تجاوزت الساعة الثانية موعد الانصراف الطبيعى من المقهى ـ حتى أنهى (معوض) بك عشرة الطاولة الأخيرة، والتي طالب في نهايتها بعدما انتصر مُجددًا بضرورة حصوله على "أوڤر تايم" بعدما مكث في المكان طيلة هذا الوقت ولم ينصرف في موعد الانصراف الطبيعى، وقال لى كأنه يواسى طفلًا صغيرًا "المُدير تروح له على الكافيه اللى في الشارع اللى ورانا، إنت فاكر المُدير بيقعُد معانا هنا على القهوة الكحيانة بتاع الموظفين دى؟!" وأطلق ضحكة جديدة وهَم بالانصراف وهو يتأكد من أحد عُمال المقهى أننى حاسبت على كُل مشاريبه اليوم وتركت له رصيدًا نقديًا إضافيًا ليوم آخر أو لحين اقتناص ضحية أخرى من بعدى، وقال ناصحًا بصدق "لما تيجى تروح للمُدير بكره علشان توقيعه، اعمل حسابك في الفلوس، الكافيه هناك أسعاره أغلى من هنا بكتير، دول بتوع الزبادى الخلاط والنسكافيه والشيشة التُفاح، مش غلابة زينا يا آبا"!

الجريدة الرسمية