رئيس التحرير
عصام كامل

افرزوا الجُثث!!

فيتو

يُسرع الخُطى فتزداد دقات قلبه وكأنها تتسابق مع سرعة الرياح، كأنه خرج لتوه من كهف الزمن السحيق ليلحق بركب الحياة، رائحتها تُزكم أنفه، دائمًا رائحة عطرها كانت مصدر جذب لالتقاء جسديهما، اقترب أكثر من الشارع الذي يقطن به، إنه لتوه عائد من جبهة الحرب بعد شهور قضاها وسط الرمال، والمعدات الحربية، ورائحة دم القتلى، ومنظر الجثث والأشلاء التي تُدمي القلوب وتُدمع العيون.

أخيرًا وصل للشارع الذي يقطن به، خُيل إليه أن محبوبته تجري نحوه فاتحه ذراعيها لاستقباله بعد طول غياب، رائحتها تتغلغل في كل كيانه، ألهذا الحد اشتياقه لها جعله يشعر بعبق وجودها حوله، لم تسعفه خُطاه فبدأ يجري لكي يصل بسرعة إلى منزله الكائن بمدينة "ليننجراد" التي أصبحت تُعرف الآن باسم سان بطرسبرج. 

أثناء الجري وقعت عينيه على شاحنة ضخمة منظرها غريب تقف على ناصية الشارع الذي يقطن به، استطلع الأمر، الشاحنة ملآنة للسقف بجثث، فقط جثث وأشلاء مرصوصة بشكل عشوائي، ليس هُناك وقت لعمل مراسم جنازات، مُعظم القتلى ذووهم أيضًا قُتلوا، لقد قامت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقصف هذه المدينة كما العديد من المدن في روسيا، الخسائر فادحة، والقتلى في كل مكان، جمعوا الجُثث في الشاحنة تمهيدًا لتدبير مقبرة جماعية في ضاحية المدينة لدفنهم.

نُغِز في قلبه، دَمعت عيناه، جرى على منزله للاطمئنان على زوجته، في لحظة وهو يحول وجهه عن الشاحنة لمح فردة حذاء في قدم إحدى الجُثث، الحذاء يشبه حذاء كان قد اشتراه لزوجته، تسمر في مكانه، قدماه لا تستطيعان حمله، ربما تكون زوجته وربما واحدة أخرى، الجُثث فوق بعضها وما يراه فقط قدم امرأة!

طلب أن يتأكد من صاحبة هذا الحذاء، للأسف كانت زوجته، قرر ألا يدعها تُدفن في مقبرة جماعية، سمحوا له بأخذ الجُثة، أثناء نقل الجُثة اكتشف، أنها تتنفس ببطء وصعوبة، أنها لم تمت ومازالت على قيد الحياة، نقلها إلى المستشفى واتكتب لها عمر من جديد.

في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1952، أي بعد مرور عامين على هذا الحادث، حملت «ماريا إيفاتوفا» ووضعت طفلًا جميلًا، أعطوه اسم "فلاديمير بوتين" الذي سيذكره التاريخ بأنه كان رئيس واحدة من أعظم دول العالم وهي روسيا.


معادلة صعبة.. البعض مزودها حبتين والبعض منقصها حبتين.
البعض مُتخيل أنه أهم شي في الكون، بدونه الدنيا ستقف، والكون مُش قد مقاسه على حسب أغنية سعاد حسني.
البعض مُتخيل أنه لا يساوي شيئا، وإن وجوده زي عدمه، وخصوصًا إذا كان الشخص يعاني على إحدى المستويات الجسدية أو الاجتماعية أو النفسيهً، تجد الشخص عنده شعور بالدونية وعدم الثقة في خالقه وفي نفسه.

سواء أكنت مزودها أو منقصها، من الآخر كده بما أنك شرفت الحياة، فأنت لك رسالة، إفرز حياتك ولا تدفن شيئًا لأنك تعتقد أنه ميت، أو غير مثمر في حياتك، ثق في خالقك وفي نفسك، أنت موجود في هذه الحياة لأن لك دور ودور مهم جدًا قد لا تستوعبه أنت وغيرك لأن فكر الله غير أفكاركم.

آية في (تكوين 31:1) تقول "ورأى الله كل ما عمله حسن جدًا..." أنا بحبها جدًا وبالتأكيد بحب كل كلمة يقولها الله، أنتو عارفين بحبها ليه؟ 
علشان أخذها حجة وأحاجج ربنا بيها، عندما أجد بعقلي البشري المحدود أن الله خلق شيئاُ لا يروق لي، وقد يكون أيضًا مصدر سخرية وتهكم من بعض الناس، ولكن سرعان ما يُخزينا الله ويًبين لنا حكمته في أن ما عمله حسن جدًا ولكن نحن لا نفهم! 


في يوم شاهدت شابًا بدون أطرافه الأربع، أي الذراعين والرجلين، تأثرت جدًا ووضعت نفسي في مكان هذا الشخص وأحسست بقسوة وصعوبة حياته، رفعت عيني إليه مُتسائلة، هل هذا عمل حسن جداُ؟ 


تعالوا نشوف ربنا عمل إيه مع نيك فيوتتش، أنه الابن الأكبر لعائلة صربية ولد في سنة 1982 في بريزين باستراليا، ولد مُشوهًا، فاقد الذراعين والرجلين باستثناء قدم صغيرة في أسفل جزعه، بالتأكيد أبواه صُدما عند مولده ورؤيته هكذا، ربما فكرا في التخلص منه، كالكثيرين الذين يتخلصون من أطفالهم لكي يتخلصوا من مسئولية تربية أطفال معوقين، وأيضًا لكي يرحموا أطفالهم من حياة قاسية تعيسة، ولكن البعض مثل أسرة نيك يفرزون ويقررون التمسك بهذا الطفل الذي يعتبر كالميت، واثقين في أن الرب هو الذي يُكمل كل نقص وكما تقول كلمته يُخرج من الجافي حلاوة.

بالتأكيد نيك فيوتتش، الذي اسمه الحقيقي نيكولاس جيمس فيوتتش حياته كانت ومازالت صعبة قاسية، أكيد تعرض لحالات من الإحباط والاكتئاب والوحدة والخوف وفكر في الانتحار أكثر من مرة، ولكن الله سمح بنقطة تحول كبيرة في حياته بعدما تعلم الكتابة باستخدام أصابع قدمه الصغيرة وتعلم استخدام الحاسوب، ودرس بالجامعة، وتعلم مهارات مختلفة أدخلت الثقة والبهجة إلى حياته، في النهاية آمن بحتمية تعايشه مع إعاقته.
في سن 17 سنة أسس منظمة غير ربحية اسمها "الحياة بدون أطراف" ومن خلالها قدم في أماكن مختلفة من العالم وعظات لتشجيع كل من حوله سواء المعاقين أو الأصحاء.
نيك أراد أن يقول إن الله أعطاني الأمل والحياة من جديد، لقد عرفت الآن الهدف من وجودي في هذه الحياة، كما عرفت لماذا سمح الله بالإعاقة التي أنا عليها الآن. 


قد تكون أنت أيضًا تعاني من إعاقة بأي شكل من الأشكال، ولكن أسوأ ما في الأمر هي معاناتك وحسرتك على نفسك فتصرخ في الآخرين لماذا أنا؟
قد تعاتبه أو تنسى نفسك وتصرخ في وجهه فين عدلك لماذا خلقتني كذلك؟ 
هل خلقتني كِمالة عدد؟ 
أنا في نظر نفسي ونظر الناس إنسان ميت، بل الإنسان الميت أفضل حالًا مني، لأنه ذهب إلى قبره ونام في سبات عميق، لا يُزعج الآخرين لكي يقدموا له يد المساعدة لكي يحيا مثلهم، أما أنا فأصبحت سببًا لشقاء نفسي والآخرين من حولي!

هذه وجهة نظرك أنت ووجهة نظر العالم، لأنكم لا تستطيعون فرز الحي من الميت، أنتم تقيسون بمقاييس العالم أما الله فمقاييسه مختلفة عن البشر.

لما الرب طلب من صموئيل النبي أن يمسح أحد أبناء يسي البيتلحمي ليصير ملكًا على إسرائيل، قال الرب لصموئيل لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب.

إنت عارف ربنا اختار مين من أبناء يسي، اختار داود الأصغر والأضعف ولم يختر الطويل العريض القوي الكبير. 

ربما إعاقتك هذه ستُصبح سر سعادتك وقوتك، افرز حياتك وركز على الجزء اللي أنت مُعتبره ضعيفا أو ميتا وسوف تحصل على نتائج مثيرة رائعة.


في الأيام القليلة الماضية أخذت جثة الطفل السوري إيلان كردي المُسجاة على رمال الشاطئ بتركيا، ورفعت عيني إليه مُتسائلة، هل هذا عمل حسن جدا؟

هل أنت خلقت هذا الطفل البرئ الجميل لكي تنتهي حياته بهذه المأساة، جاءني صدى الصوت من عمق البحر وهدير الموج، لكي تصحي الضمائر الميتة، بل عليكم أن تفرزوا أكثر وأكثر وتدققوا أكثر وأكثر، ليس كل من رفع صوته بالبكاء والنحيب والتصوير الإعلامي عنده ضمير حي، ربما مازالت الضمائر ميتة وماهذا إلا شو إعلامي!

في النهاية أنت هُنا في هذه الحياة لأنهُ لك رسالة، ولك دور في الحياة، لم يخلقك الله اعتباطًا، أو كِمالة عدد، ولكن لك دور مُهم جدًا في الحياة مهما إن كنت مُعاقًا أو مريضًا أو مرفوضًا من الآخرين، وأيضًا مهما إن كان عُمرك قصيرًا أو طويلًا.

ليست هناك نهاية سيئة لحياة الإنسان لأن الله يحول السيئ للأفضل سواء لك أو للآخرين الذين ستكون أنت سبب بركة لهم.
الجريدة الرسمية