رئيس التحرير
عصام كامل

مرة أخرى.. عن الإصلاح والثورة

18 حجم الخط

ذهبنا في معرض حديث سابق، شأننا في ذلك شأن معظم المحللين والباحثين، إلى أن الثوري هو الشخص الذي يريد أن يغير العالم، أو يصلحه، بشكل جذري الآن وفورا، ويبدو من هذا التعريف أن الثوري لا بد أن يرتبط وجوده بوجود حالة ثورية - أي بوجود ثورة أو عملية ثورية على الأقل - ولكن الثورة، أو الحالة الثورية، هي أمر موضوعي يحدث على الأرض؛ نتيجة عوامل موضوعية معقدة ومركبة، والجهد الذي يقوم به الثوري في بناء هذه الحالة الثورية لا يعتبر الأمر الحاسم في بناء هذه الحالة في أغلب الأحوال، وبصياغة أخرى يمكننا القول إن الثورة لا تتوقف فقط على إرادة الثوري ولا تنطلق فقط من رغبته ولا تتحقق فقط من خلال تضحياته.


وإذا كان ذلك كذلك، فإننا من الممكن إذن أن نتصور وجود شخص ثوري بدون وجود حالة ثورية، ومن ثم فليس من المنطقي أن يستمر الثوري، في غير وجود حالة ثورية وهو يطالب بالإصلاح الجذري الآن وفورا، إلا لو عاش وهم أن الحالة الثورية قائمة على الرغم من عدم وجود أي دلائل موضوعية على ذلك، وللأسف فإن نسبة كبيرة من الثوريين يقعون فريسة هذا الوهم الذي يفضي إلى عزلتهم وانكفائهم على أنفسهم في مواجهة الناس الذين يفترض أنهم يسعون إلى تمثيلهم والتعبير عن مصالحهم.

وبصفة عامة، يمكننا القول إن أغلب الثوريين الذين يعيشون وهم وجود حالة ثورية دائمة هم أبناء اللحظات الثورية الذين تفتح وعيهم في تربة الحالة الثورية، وعاشوا هذه الحالة الواعدة والمفعمة بالآمال، ويتصور الكثير منهم أن التمسك بهذه الحالة والإبقاء عليها مرهون بتقديم مزيد من الجهد والتضحيات، وكلما بذلوا مزيدا من الجهد وقدموا مزيدا من التضحيات تزداد عزلتهم ويتصورون داخل "الجيتو" الذي اختاروا أن يعيشوا بين جدرانه، أنهم يعيشون نفس اللحظة الثورية التي يحاولون استحضارها، ولكنهم يصطدمون من حين إلى آخر بالواقع عندما يضطرون إلى الخروج من "الجيتو" لسبب أو آخر.

ومن ثم ينشأ تناقض بين ما يتوهم مثل هؤلاء الثوريين، أنهم يعيشوه وبين ما يعيشونه فعلا، بعد أن تنحسر الموجة الثورية، وهذا بالضبط ما يجعل مثل هؤلاء الثوريين فريسة للإحباط، أما الأشخاص الذين قاموا بثورتين نتيجة الاطلاع على الأفكار والنظريات الثورية، فتراهم أقرب إلى الاستمرار بوتيرة شبه ثابتة في اللحظات الثورية وغير الثورية، وبعضهم قد تراه غير قادر على التفاعل مع اللحظات الثورية؛ لأنه ظل أسير الكتب والنظريات المجردة.

وفقا لكل ما تقدم، نستطيع أن نستنتج إذن أن تعريف الثوري المجرد يجب أن يقتصر على أن الثوري هو من يريد تغيير أو إصلاح العالم، بشكل جذري دون أي إشارة إلى أن هذا التغيير أو الإصلاح الجذري يجب أن يتم الآن وفورا، ولكن في اللحظات الثورية ينبغي على الثوري أن يرفع شعار الآن وفورا، وفي هذه اللحظات بالتحديد يمكننا أن نميز بين الثوري والإصلاحي، فالثوري لا يستلهم روح الثورة وتطلعاتها لكي يفرض إرادة الناس وتطلعاتهم الرامية إلى تحقيق تغيير أو إصلاح جذري فحسب، بل إنه يلتقط بشائر هذه اللحظة الثورية ومقدماتها فيسعى إلى التعجيل بها والانخراط في مقدمة صفوفها، أما الإصلاحي فلأنه لا يريد إلا بعض الإصلاحات الجزيئية هنا أو هناك، أو لأنه يخشى ما تفرضه الثورة من تضحيات، تراه يقف ضد الثورة أو يحاول عرقلة بزوغها أو عرقلة تقدمها أو في أحسن الأحوال تراه ينخرط على مضض في صفوفها الأخيرة.

في الأحوال العادية، وفي ظل عدم وجود لحظة ثورية، يناضل الثوري الذي يريد تحقيق الإصلاح الجذري والشامل من أجل تحقيق إصلاحات جزئية؛ لأن هذه الإصلاحات الجزيئية والتدريجية تقترب به من تحقيق هدفه في الإصلاح الشامل والجذري، وبتعبير آخر تعد الخطوات الإصلاحية هنا تكتيكات مرحلية في اتجاه تحقيق الهدف الإستراتيجي المرجو، وهو الإصلاح الجذري والشامل، وتتقاطع خطوات الثوري الإصلاحية، أو تتماس، مع ممارسات ومواقف الإصلاحي، وتختلط أوراقهما ربما إلى حد يربك حركة هذا الطرف أو ذاك أو يربك أنصار هذا الطرف أو ذاك، ورغم كل الآثار السلبية لهذا التقاطع، أو التحالف، الذي يحدث، وبشكل مستقل عن إرادة الطرفين، الطرف الثوري والطرف الإصلاحي.

يظل هذا "التقاطع - التحالف" أمرا مفيدا جدا للطرفين؛ لأنه يعجل من تحقيق الإصلاح الذي ينشده الإصلاحي مثلما يعجل من تحقيق خطوات في اتجاه الإصلاح الجذري والشامل الذي ينشده الثوري.

أخيرا ينبغي أن نؤكد هنا على أنه في اللحظات الثورية، في اللحظات الثورية وحدها، يمكنك أن تعرف بيقين لا يخالجه أي شك من هو "الثوري - الثوري" ومن هو "الثوري - الإصلاحي"، وفي غير هذه اللحظات أنت لن تحتاج أو تضطر للفرز بين الطرفين، ولن تمتلك أي طريقة موضوعية للقيام بهذا الفرز، وأي تسرع في إجراء مثل هذا الفرز لن يشيع إلا الفرقة ولن يستند إلا على الحدس والتخمين، وفي النهاية دعونا نؤكد بصياغة أكثر إيجازا وتحديدا على أن كل ثوري من الممكن، وربما يجب عليه، في غير اللحظات الثورية أن يكون إصلاحيا، ولكن ليس كل إصلاحي من الممكن في اللحظات الثورية أن يكون ثوريا.
الجريدة الرسمية