كلفة «الإخوان» فى مصر

ما عاد من السهل إحصاء الأزمات المصريّة الكبرى أو تعقّلها. فكأنّنا أمام مشهد غرائبيّ تنهار فيه أعمدة البيت المصريّ الواحد بعد الآخر، ذاك أنّه بعد القضاء وانفجار أزمة علاقته بالسلطة، والاقتصاد الموشك على كارثة محقّقة، وظهور علامات تطرّف فى الاتّجاهات كلّها، وبعد التقاط إشارات متعاظمة على صعود النزعة الجهويّة فى مدينة بورسعيد وربّما فى غيرها من المناطق، وعطفاً على الأزمة القبطيّة التى تمضى وتتصاعد بذاتها، تطرح مسألة الشرطة والأمن التحدّى الأكبر، فإذا ما سارت الأمور على النحو الذى أوحت به الأيّام القليلة الماضية، انتهينا إلى وضع ليس من المبالغة وصفه بالميليشيويّ المتعدّد الرءوس فى بلد كثيراً ما فاخر بتقاليد دولته المركزيّة.
وفى مناخ كهذا لا يكون من المستبعد أن يغدو الخيار العسكريّ خياراً خلاصيّاً وشعبيّاً عريضاً، مع ما يمثّله ذلك من انتكاسة للثورة فكراً وواقعاً وشرعيّةً، ومن شطب لتضحيات المصريّين والمصريّات وآمالهم.
لقد شاع فى بيئة المؤيّدين للثورات العربيّة تشبيه بالثورة الفرنسيّة وما تكبّدته من أكلاف، أو أدّت إلى تكبيده، قبل استقرار فرنسا على حالتها الديمقراطيّة الراهنة، وهى حجّة صحيحة حين يكون القصد استبعاد الحلول السحريّة وتوكيد مصاعب الانتقال من وضع إلى وضع آخر مختلف، لكنّ الحجّة نفسها تغدو تبريريّة حين يكون المقصود منها عدم محاكمة التاريخ الذاتيّ، أو غضّ النظر عن مسئوليّة الأطراف التى ترعى الانتقال وتتعهّده، ففى هذا المعنى الأخير يصبح مثَل الثورة الفرنسيّة كالدعوة إلى إعادة اختراع النار كلّما أريد استعمال عود ثقاب.
فنحن فى مصر اليوم نكتشف بقدر لا يخفى من الذهول، حجم الكبت المتراكم فى تعبير البلد عن ذاته، أى عن تناقضاته الهيوليّة، سنةً بعد سنة وعقداً بعد عقد، يكفى القول مثلاً إنّ هناك الآن أكثر من 16 تنظيماً سياسيّاً إسلاميّاً، الشىء الذى ينمّ عن مدى التفتّت الضارب حتّى فى أصحاب القول الإيديولوجيّ الواحد.
لكنّنا نكتشف أيضاً كلفة تولّى جماعة الإخوان المسلمين أمر الانتقال من الحالة الموصوفة أعلاه، لقد كتب فهمى هويدى الكاتب والصحافيّ المدافع دائماً عن «الإخوان»، أنّه «لا مفرّ من الاعتراف بأنّه فى الحالة المصريّة وأمثالها، فإنّ أداء الإسلاميّين فى إدارة شئون الدولة يبدأ من الصفر تقريباً». (جريدة «الشروق»، 3 آذار/مارس الماضى).
فإذا كانت هذه هى الحال، وهى كذلك صار الإسلاميّون مطالَبين باحتلال مقاعد التلامذة الذين يتعلّمون، لا منصّة الأستاذيّة التى يحتلّونها اليوم.
وفى ظلّ عنوان مثير، هو: «قبل أن يصبح الإسلام هو المشكلة»، يختتم هويدى بالقول: «لقد كان البعض يرفعون فى السابق شعار الإسلام هو الحلّ، وأخشى إذا تعثّرت المسيرة فى ظلّ وجود الإسلاميّين بالسلطة أن تنقلب الآية فى نهاية المطاف، بحيث يصبح الإسلام فى نظر البعض هو المشكلة».
والحال أنّ كلفة الحكم الإسلاميّ يمكن أن تطال الإسلام نفسه فعلاً، لا سيّما وقد تولّى الإخوانيّون تبديد آخر الآمال بتكرار النموذج التركيّ، إلاّ أنّ الكلفة ستطال أيضاً مصر نفسها فى مكوّناتها العميقة، ناهيك عن الثورة.
نقلاً عن الحياة اللندنية