رئيس التحرير
عصام كامل

سفينة القدر لـ"رباب أنور"

فيتو

صماءُ... عمياءُ... بكماءُ إذن .. هى لحظات الغضب ..
التى تكتب أسوأ النهايات لأجمل القصص والحكايات.. فهى تَصُم أذنيها عن سماع الأسباب، وتَعمى عيناها عن رؤية الحقيقة، وتُكمم فيها (فمها) عن النطق بالتبريرات..

هى نفسها لحظات الغضب التى أتت على الأخضر واليابس فى علاقة (إنجى) مدرسة اللغة الإنجليزية بـ(أحمد) الأخصائى الاحتماعى بنفس المدرسة التى تعمل بها)إنجى)..
تلك العلاقة التى دامت قرابة الثلاث سنوات ويعرفها الجميع وفى انتظار ذلك اليوم الذى سيعلن فيه الحبيبان موعدًا لتتويج هذه العلاقة رسميًّا ليسعد الجميع معهم..

ولكن أحيانًا تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، ودائمًا ما تتحطم سُفن الحب على صخرة الظروف المادية التى جعلت أحمد عاجزًا عن إضفاء صبغة الرسمية على هذه العلاقة.. وهو الرجل الوحيد فى المنزل بعد رحيل أبيه الذى كان يعمل موظفًا بسيطًا بالمجلس المحلى، ومعاشه لا يكاد يكفيهم العيش الحاف.. فقررت أمه أن تأتى ببعض الملابس الجاهزة والمفروشات لتبيعها من البيت للجيران والأصدقاء والأقارب عملًا بالمثل القائل "نواية تسند الزير"..

هو أيضًا الابن الأوسط بين ابنتين إحداهما تكبره بأربعة أعوام تعمل بائعة بصيدلية، بعد أن حصلت على دبلوم التجارة وجلست فى البيت تنتظر (عدلها) ولم يأتِ.. فاضطرت للعمل لسببين: أولهما طلبًا لعريس قبل أن يفوتها قطار الزواج وهى التى أوشكت أن تنهى العقد الثالث من عمرها، والسبب الثانى هو المساعدة فى مصاريف البيت ..
تحقق لها المطلب الأول وجاءها العريس، فتشبثت به، وكان مطلبه الأول أن تترك العمل بالصيدلية، فزاد الحِمل على (أحمد) إضافة إلى أخته الصغرى طالبة الشهادة الإعدادية .

لن ينسى (أحمد) كلمات (إنجى) القاسية وملامحها - وهى البريئة، الشقراء، الممشوقة القوام - التى تبدلت بملامح أخرى لا يعرفها أشبه بملامح الساحرة الشريرة التى كان يراها فى أفلام الكرتون، وليس لشىء إلا لأنها لم تعد تتحمل "زن" أمها كلما جاءها عريس، وأنها ملت انتظاره سنة بعد الأخرى، وقد قرب موعد زفاف أختها الصغرى، وبالطبع ستأتى أختها الكبرى من الخليج لحضور حفل الزفاف، وتزيد من وتيرة الضغط عليها للقبول بعريس من قائمة العرسان الذين يتقدمون يومًا بعد يوم ..

انفجرت (إنجى) فى وجه (أحمد) كرشاش سريع الطلقات وأصابتها الهيستيريا، فتقف تارة، وتجلس تارة، وتبكى تارة، وتمسح دموعها وهى تضحك تارةً أخرى، ومن ثم تستفيض فى شرحها لظروف العريس (المتريش) المتقدم لها أخيرًا وهو الخطيب السابق لابنة خالتها التى انقطعت علاقتها بأمها منذ سنوات طويلة بسبب الميراث.. وكيف أن أمها تعتقد أن هذه هى أكبر ضربة قد توجهها لأختها ردًّا على ما تعتقد أنه ظُلم تعرضت له أثناء تقسيم ميراث والدهما، وستكون إنجى هى ضحية هذا الصراع إن لم يُسرع أحمد ويتقدم لخطبتها ليكون هناك مبرر لرفض هذا العريس ..
وهو نفس المنطق الذى يفكر به العريس، وهو أن خير صفعة يوجهها لخطيبته السابقة هو خطبة ابنة خالتها التى تفوقها جمالًا.. والتقت المصالح على أمرٍ قد قُدر ..

لم يرد أحمد بكلمة واحدة، واكتفى بإعلان هزيمته وضعفه أمام (إنجى)، وأمام ظروفه الاقتصادية التى تمزقت بين تجهيز أخته العروس وبين مستلزمات البيت، ولم يقاطع (إنجى) إلا عندما ذَكَّرته أنها عرضت عليه مرارًا وتكرارًا مساعدته ماليًّا بحصيلة ما تدخره من راتبها ومن الدروس الخصوصية، قائلًا إنه لن يقبل منها مليمًا ولو كانت آخر امرأة فى العالم.. ولو انقضى عمره بدون زواج سيفعلها ..
كان (أحمد) يعرف أنه يضع اللمسات الأخيرة لمشهد نهاية قصتهما فى هذه الكلمات.. ولكن هل هناك بديل؟؟.. للأسف لا يوجد ..
انصرفت (إنجى) ورجعت إلى منزلها الذى تدوى فى جنباته الزغاريد والأغانى استعدادًا لزواج أختها.. دخلت غُرفتها دون أن تنطق بكلمة واحدة.. فرمقتها النساء الجالسات بنظرة غريبة، وأخذن يهمهمن بكلام جانبى تفهمه أمها جيدًا .. والتفتت الأم إليهن قائلة: "معلش أصلها جاية من الشغل تعبانة".
دخلت الأم على (إنجى) فوجدتها ملقاة على السرير تنتحب بصوت عالىٍ وقد غرقت وسادتها بالدموع، فسألتها عن السبب؟؟
ردت (إنجى) بكلمة واحدة: "ماما.. أنا موافقة".
أخذت (إنجى) قرارها فى لحطة ضعف خارت فيها كل قواها.. ولم تكن أحسن حالًا من أحمد الذى أعلن هزيمته من قبل..
زغردت الأم وهرولت لتبلغ النساء الجالسات بالخارج.. وسريعًا تمت الخطبة بالفعل وتم التحضير للزواج، فكلاهما (العروسان) لا ينقصهما ماديًّا شىء، والأم تريد أن تختصر الوقت سريعًا قبل أن تستفيق (إنجى) من سكرتها ..
لم تشعر (إنجى) بما تشعر به كل عروس.. لم تفرح.. لم تبتهج.. لم تأخذ حلوى الخطوبة لزملاء العمل.. كانت دائمة البكاء فى الخفاء دون أن يشعر بها أحد.. وهى التى تكتوى وحدها بنار بعدها عن (أحمد)..
لم تجلس مع خطيبها يوم زفاف أختها على مائدة واحدة.. ترفض باستمرار الخروج معه خوفًا من لقاء الحبيب فى طريق من طرقات المدينة الصغيرة التى يعرف الناس فيها بعضهم بعضا..
حان موعد سفر الأخت الكبرى بعد أن حضرت حفل زفاف أختها الصغيرة.. (إنجى) تودع أختها.. تضمها وكأن أختها وصلت لتوها من السفر.. تبكى وتبكى وتبكى.. ترد أختها "أنا عارفة يا إنجى إنك زعلانة؛ لأنى مش هالحق أحضر فرحك، بس معلش يا أختى.. المهم إن ربنا يتمم عليكى بخير".
لم تعلم الأخت الكبرى السبب الحقيقى لهذا البكاء ولم يعلمه إلا الله ..
مر أسبوعان والتجهيز للزفاف يتم على قدم وساق، و(إنجى) تذبل يومًا بعد يوم ..
وفى يوم من ذات الأيام رجعت (إنجى) من العمل مصفرة الوجه تتلاحق أنفاسها وكأنها تقطع الشارع عدوًا إلى المنزل، ودخلت إلى غرفتها وسمعت أمها صوت ارتطام شديد، فهرعت إلى حجرة (إنجى) لتجدها ملقاة على الأرض وفاقدة للوعى..
اتصلت الأم بالابنة الصغرى لتأتى سريعًا مع زوجها برفقة الطبيب الذى طمأنهم أنه مجرد هبوط فى الدورة الدموية التى امتزجت كل ذرة فيها بحب (أحمد)..
وعند المغرب نادت (إنجى) على أمها وطلبت منها ألا تخبر خطيبها بما جرى لها ..
نظرت فى سقف الحجرة كثيرًا وفجأة قالت لأمها: "ماما.. ماما.. خُدينى فى حضنك.. ضُمينى قوى يا ماما".
ضمتها الأم بكل قوتها ثم لاحظت بعد فترة أنها لا تسمع أنفاس (إنجى).. اعتدلت الأم فى جلستها وإذا برأس (إنجى) تسقط من على كتف الأم ..
صرخت الأم: إنجى.. إنجى، ولكن إنجى لم ترد.. أسلمت قلبها لأحمد فى حياتها ثم أسلمت روحها لبارئها وجسدها للقبر. ولم تستطع أن تسلمه لرجل لم تحبه يومًا ..
قلوبٌ تعشق حتى التلاشى .. حتى الموت ..
تركب سفينة القدر ترسو بها كيفما وأينما شاءت ..

الجريدة الرسمية