هذا إذا صدقت «النهضة»!
يبدو أنّ حركة النهضة الإسلاميّة فى تونس، بدأت تتنبّه إلى أنّها لن تستطيع الحكم بالطريقة التى راهنت عليها قبلاً.
فقد أعلنت على لسان زعيمها راشد الغنّوشى، موافقتها على التخلّى عن الوزارات السياديّة لوزراء يكونون «شخصيّات مستقلّة»، وفى عداد تلك الوزارات وزارة الداخليّة التى تتولّى الأمن وتشرف على تنظيم الانتخابات، ومعروف أنّ الداخليّة بحسب ما يكاد يكون تقليداً تونسيّاً هى غرفة نوم السلطة: فهى التى صعد منها زين العابدين بن على إلى رئاسة الدولة، وهى التى مُنحت بعد الثورة لعلى العريّض كونه أحد أبرز شخصيّات «النهضة». هذا يوحى أنّ الخيار البوليسيّ قد طوى.
إلى ذلك حدّدت السلطة قاتل القياديّ اليساريّ المعارض شكرى بلعيد، معلنةً أنّها قبضت على أعضاء خليّته «المتشدّدة دينيّاً»، وأنّها تحاصر منطقة تقع على الحدود مع الجزائر، يُعتقد أنّ القاتل السلفيّ يختبئ فيها، وحتّى لو كانت رواية السلطة هذه قليلة الدقّة، أو عديمتها كما يرى معارضون، يبقى واضحاً ذاك الاضطرار إلى التحرّك ووضع حدّ للتسيّب الأمنيّ يترافق ذلك مع ما أبداه غير رسميّ أوربيّ وغربيّ من أنّ ضبط الأمن أحد أهمّ الشروط للاستثمار فى تونس التى هى فى أمسّ الحاجة إلى استثمارات خارجيّة.
وفى المقابل يتكشّف أنّ الاستفادة السياسيّة المحتملة من السلفيّين التى تجنيها «النهضة» غدت أقلّ كثيراً من مضارّهم على الأصعدة جميعاً، خصوصاً وقد اتّضحت استحالة ضبطهم فى أيّ تعاقد سياسيّ أو أمنيّ ملزم، ومؤخّراً جاء هجومهم على «معهد بورقيبة للّغات الحيّة»، شمال العاصمة ومنعهم الطلاّب من تأدية رقصة «هارلم شيك»، لأنّ «الإسرائيليّين يقتلون إخواننا فى فلسطين وأنتم ترقصون»، ليغذّيا الشكوك بهم ويعزّزا الرغبة فى التنصّل منهم.
وفى المناخ ذاته ظهرت تقارير تؤكّد أنّ على العريّض، المكلّف تشكيل حكومة جديدة، يقدّم للأحزاب تنازلات فيما خصّ وضع القضاء والإعلام، فإذا صحّ هذا أمكن القول إنّ «النهضة» بدأت تتيقّن فعلاً من محدوديّتها ومن أنّها إذا ركبت رأسها دفعت بالبلد إلى حفرة كبيرة يصعب الخروج منها.
وهذا ما كانت قد أظهرته حركة القوى السياسيّة الحاكمة فى تفاعلاتها الداخليّة كما فى العلاقات بينها، ففى داخل «النهضة» نفسها لم يعد سرّاً أنّ عبدالفتّاح مورو، الشخصيّة التاريخيّة فى النهضة، وحمّادى الجبالى، أمينها العامّ ورئيس الحكومة السابق، يتمايزان تمايزاً ملحوظاً عن الغنّوشى، أمّا وضع الائتلاف مع حزبى «المؤتمر من أجل الجمهوريّة» و»التكتّل الديمقراطيّ» فليس على ما يرام، فيما الوضع داخل هذين الحزبين نفسيهما ليس أيضاً على ما يرام، ولا ننسى أنّ «النهضة» لا تسيطر فى آخر المطاف إلاّ على 89 مقعداً من أصل 217 مقعداً فى البرلمان.
لكنْ إذا صحّ افتراض أنّ «النهضة» بدأت ترى وتسمع وتعى، كان الفضل الأوّل فى ذلك للحركة الشعبيّة الشبابيّة والنسائيّة والنقابيّة المدهشة فى تونس، وكان أبرز ما يُبنى على ذلك أنّ الثورة التونسيّة على رغم كلّ شىء تمكّنت من فتح الباب للسياسة وللحركات المدنيّة والشعبيّة كى توجد وكى تحدّ من جموح الإسلام السياسيّ المتعطّش للسلطة.
هذا إذا صدقت «النهضة» طبعاً... بما يتيح الانتقال إلى سؤال آخر: متى مصر؟
نقلاً عن الحياة اللندنية
