رئيس التحرير
عصام كامل

كمال الشاذلي من عالمه الآخر: أصل "الحشود" كانت من اختصاص "الدفاس" !

فيتو
18 حجم الخط

مرت لحظات قبل أن أميز صوت عم إبراهيم القهوجي من زحام الأصوات المتداخلة معه وهو يناديني “يا بيه أعملك قهوة”، لم أستطع الرفض؛ فحينما يباغتني بسؤال هكذا أتاكد أن جلستي قد طالت ولم أنفعه سوى بواحد شاي ولا قهوة وبساعته الداخلية التي لا تخطئ تكون القعدة واقفة عليه بخسارة.

زم عم إبراهيم شفتيه وتمتم بكلمات عن الزمن اللي عدى وأيام ما كان الزبون مش بيبطل طلبات طول ما هو قاعد، فكان لا بد من تدخل حاسم من أحدهم ليتوقف هذا القهوجي عند حده، وبالطبع لم تكن لدى الجسارة لأكون هذا «الحد»؛ لأني من عمر أبنائه ثم إن الرجل مستحملني بواحد شاي وقهوة بفضل قاعد بالخمس ست ساعات، فتطوع عم صبحي الموظف بالمعاش لنهره.

شجعه على ذلك تقارب السن بينهما والعشرة الطويلة التي جمعتهما فأطلق عقيرته للدرجة القصوى وصرخ: “مش ناقصة يا عم إبراهيم «برطمة» مش كفاية العك اللي شايفينه!!

وأشار بيمينه إلى شاشة التليفزيون القديم المعلق فوق أحد الأرفف والكاميرا مثبتة على بعض اللجان الخاوية.

لست وحدي من ترك “البحلقة” في الشاشة وأطلق نظرة على صاحب هذا الصوت الجهوري الذي اشتبك مع عم إبراهيم بكلمات أثارت حزننا حينا وانتزعت ضحكات أحيانا.
- يعني هو إنت كنت انتخبت يا صبحي لما جاي تولول كدا.
وكأنها طعنة في شرفه: فشر قطع لسانك.. صباعي أهو.
وأشهر إصبعه السبابة المغموس باللون الوردي ليشهد الجميع على صدق كلامه وتابع:
- انتخبت يا عم إبراهيم يا قهوجي عشان أكيد العدا.
- عدا مين بس اللي هتكدهم دا إحنا اللي متكادين واللجان فاضية.
قلب صبحي انكسر كزجاج وهبط الصوت الحنجوري للدرجة الأدنى وتمتم:
- العيب مش على الناس العيب على الحكومة.
- يا صبحي يا أخويا الشباب مقاطعين، مالها الحكومة بس، هتروح تشد الواحد من دول من قفاه وتقوله تعالي انتخب غصب عنك.
- شباب لا مؤاخذة... !! «لا تصلح للنشر»
- تنحنحت بإحراج فانتبه صبحي أفندي وتابع:
- لا مؤاخذة يا بيه -يقصدني- أنا مش قصدي كل الشباب فيه اللي متنور ومتعلم وواعي زي حالاتك. «حكم بذلك عشان اللاب توب والجرنال اللي على ترابيزتي».
شعرت بضرورة إخفاء يدي؛ فأصابعي لم تتخضب بعد باللون الوردي فتابع:
- يا بيه زمان كانت الانتخابات دي ليها شنة ورنة ولها رجالة معلمين وأسطوات في حشد الناس ويخلوك تروح تنتخب وإنت آخر مزاج مش تقولي شوية عيال هيمشوا كلامهم علينا.. الله يرحمك يا كمال يا شاذلي..
رن الاسم في أذني فتدحرج إلى عقلي وشاغب بنات أفكاري ففصلني عنهم جميعًا فكدت لا أسمع أحدًا فتدحرج من تلافيف أفكاري إلى شفتي فنطقته.. الشاذلي.
لابد من أن استدعيه للحوار، فلم أدر كم من الوقت مر حتى انفردت بنفسي فأسرعت إلى حجرتي وتلوت تعاويذي وقرأت طلاسمي لتأتيني روحه من العالم الآخر.. بوجه شاحب وعين مفتوحة على لا شيء لكنها تنظر لأبعد ما نرى جاءني يتلو عليّ السلام
- وعليكم السلام يا كمال بيه أهلا بيك في دنيانا.
«معاتبا» - أنا راضي ذمتك دي أيام تستدعي فيها روحي هو أنت عايز تشلني!!
- أشلك ليه كفى الله الشر.
- عشان أنا مغلول ومتضايق من اللي شفته في الكام يوم اللي فاتوا واترحمت على أيام زمان.
- تقصد الانتخابات؟
- هو إنت بتسمى اللي حصل دا انتخابات.
- وهي ليها اسم تاني.
- سميها أي اسم لكن قطع لسان اللي يقول إن دي كانت انتخابات زي بتاعة زمان!!
- بس على أيامكم مكنش في رقص وزغاريد وتسلم الأيادي والصعيدي وابن أخوه البورسعيدي.
- إيه.. حيلك حيلك هو فرح العمدة!!
- أكتر يا كمال بيه.. دا الانتخابات دلوقتي بقت ولا يوم الحنة ولو محصلش كدا يبقى أهل الفرح متخانقين هما والمعازيم ولازم يتصالحوا!!
- طب ولا إنت بتقول عليه دا حصل المرة دي؟!
- يعني على خفيف كدا في أول يوم وبعد كدا كان في عزوف من الشباب..
- عزوف.. الكلمة دي لم يكن لها مكان في قاموسنا وإحنا بنحضر للانتخابات عشان كنا بنعملها على أصولها وما بنسمحش بكلام زي كدا.
- طيب الحكومة هتعمل إيه أكتر من اللي عملته.. يوم إجازة وظبطت الناس وغرامة وفرضت.
- الإجراءات دي كلها كانت رد فعل مش تخطيط من البداية، ثم الغرامة كدا مش على الملأ عشان متسمحش لحد يقول إن الناس راحت خوفًا من الغرامات، خليها على شكل إشاعة تطلع في كل مؤسسة حكومية وهتلاقي الناس طيران من نفسهم بينتخبوا، أما الإجازة في يوم حر زي دا كان لازم «يأنتخوا» في البيت..
- «يأنتخوا» يا كمال بيه حضرتك كنت رجل دولة يعني والكلام له حساب!!
- أعملك إيه.. العك السياسي بيخرجني عن شعوري.. أنا بحب كل حاجة تتعمل على المسطرة مش هنسيب مستقبل بلد يتحكم فيه شوية هواة.
- كل الجهات المسئولة عن إدارة الانتخابات عملت اللي عليها..
- الطبخة كانت ناقصة ملح.. أنت عارف اللي حصل دا فكرني بمشهد النهاية في فيلم العار لما خبوا الصفايح في مية مالحة ورد الكومبارس وقال أصل التخزين كان من اختصاص الدفاس، ولما «الدفاس» راح راحت معاه الخبرة واتخرب بيت الكل.
- يعني الحشود أيام انتخاباتكم كان ليها «دفاس» مخصوص.
- كل صنعة ومهنة ليها «دفاسها» يا حبيبي.
- ومنقلتوش خبرتكم دي ليه لجيل جديد؟
- نقلناها لكن ما استعوبوش الدرس كويس.
- تقصد أحمد عز!!
- هو بعينه كان ممكن ييجي منه لكن لما فكر أنه يحشد البلد ورا الحزب الوطني حشدها بغباء ونسي أنه كان لازم يدي مساحة للناس تتكلم.. حتى المختلف معاك لازم تفتح له الباب شوية وتسيبه ينفس عن نفسه بدل ما يتحول لأنبوبة تنفجر في وشك من كتر الضغط ودا اللي حصل!!
- دي كانت أهم ملاحظاتك ولا في كمان..
- لا طبعًا أهم حاجة كان لازم تعمل كنترول شوية على الإعلام مش تسيبه «يولول» كدا ويقول فين الناس ومصورلي لجان فاضية تسمح للناس تشكك في النتيجة لما تطلع.
- ودا اللي حصل بالظبط وقاله المرشح الخاسر في الانتخابات، وفي ناس موافقاه في الكلام دا خاصة بعد ما شافوا كل نجوم التوك شو بلا استثناء بيأكدوا إن نسبة الإقبال كانت ضعيفة.

- يا بني هو أنت بتكلم تلميذ دا أنا شعري شاب من لعبة الانتخابات دي، مشكلة النخبة دي إنها مش شايفة غير اللي على وش القفص ومتعرفش إننا كنا بنديرها من تحت لفوق وبتوع الإعلام اللي بعت كاميرا تصور في الزمالك ولا الدقي هما دول بتوع انتخابات انزل على القرى والكفور والنجوع والعزب وشوف الحشد عن طريق العمد وكبارات البلد وكل واحد من دول بيتحكم في أصوات بلده وقريته كلها لو قال يمين يبقى يمين لو قال شمال محدش يعارضه عرفت أصولها إزاي.

- بس عشان كل واحد ياخد حقه.. الحشد للانتخابات كان على آخره، لكن في ظروف خارجة عن إيد أي حد زي درجة حرارة الجو ومشاكل الوافدين وغيرها.

- قلتلك أنا بحب أعمل كل حاجة زي ما الكتاب بيقول وشغلي بحب أعمله على المسطرة وبلاش حجج فاضية، ناس بلدنا اللي أعرفهم كويس ممكن ينحتوا في الصخر لو ديتهم أمل، ثم يعني هو 30 يونيو كان في الشتا ولا 3 يوليو كان في آخر ديسمبر ولا ميدان التحرير كان في الاسكيمو ساعتها ودلوقتي اتنقل لأفريقيا الوسطى، بلاش حجج، إلعب على أمل الناس ومشاعرها وأحلامها وأنت تحشد مظبوط، وافتكر دايما هناك نوع من القطط المتطفلة دايما هتلاقيها تحوم حول الموائد عشان تأخد نصيبها حتى لو كانت فتافيت أكل مهما كان نوعه، وأحيانًا تكتفي بالرائحة فقط، ولكنها لا تيأس أبدًا وهتفضل تلف وتتمسح فيك حتى تحصل على أي شيء ولو كان تافهًا أو لا يسد الرمق.
- لكن هؤلاء النفعيين المتطفلين هم أساس الخراب والفساد في مجتمعنا وفي كل مجتمع.
- شغل أجهزتك الرقابية، حارب الفساد، وحاذر دايما.. إلا أكل عيش الناس لأنهم ممكن ياكلوك حتت.
- هو إحنا نصنعهم وبعد كدا نحاربهم....
انتبه أن الحوار قد طال فقاطعني:
- لا أنا كدا مرتبط بأكتر من ميعاد ومضطر اسيبك ونبقى نكمل بعدين دا لو حبيت.
فطلب مني أن أطلق روحه فتلوت تعاويذي وقرأت طلاسمي فذهبت روحه إلى حيث أتت.
الجريدة الرسمية