إحباط فى بيئة الحريَّة
فى العقد ونصف العقد المنصرمين، تدرَّج طلب الحريَّة فى منطقة المشرق فمرّ فى مراحل عدّة وعناوين عدّة، على ما بينها من تفاوت فى الحجم والأهميّة: من ربيع دمشق إلى إطاحة صدّام حسين فى بغداد، ومن انتفاضة القامشلى إلى 14 آذار اللبنانىّ، وصولًا إلى التتويج الملحمىّ فى الثورة السوريّة. وكانت الوجهة هذه، بين أوصافها الكثيرة، تشقّ طريقًا جديدًا فى الرؤية والنظر: فقد بدا معها أنّ الحريَّة الشرط الشارط المسبق لكلّ سياسة، بينما كلّ هدف آخر، «يساريًّا» كان أم «يمينيًّا»، أم «اشتراكيًّا»، أم «ليبراليًّا»، يلى ذلك.
لكنْ ما من شكّ فى أنّ بيئة الحريَّة التى احتفلت بتلك التحوّلات مصابة اليوم بقدر من الإحباط. ففى العراق قُصف الطلب على الحريَّة بانشطار طائفىّ وإثنىّ لم تكن مقدّماته خفيّة. وفى لبنان، وعلى سويّة أصغر وأقلّ دراميّة، تكشّف أنّ 14 آذار كانت فيدراليّة عابرة للطوائف طرحت على نفسها، فى ظرف استثنائىّ، مهمّة وطنيّة جامعة. أمّا فى سوريا، فتقاطعت، وتتقاطع، الثورة مع نزاع أهلىّ ومع أزمة إقليميّة يُضعفان وهج الحريَّة كمسألة شعبيّة عابرة للجماعات.
وقد يقال الكثير فى كلّ واحدة من هذه الحالات حين تؤخذ على حدة. لكنّ المشترك بينها، الذى يفسّر الكثير من الإحباط الراهن، أنّ شعوب منطقتنا لم تكن مُعدّةً لإدراك حقيقتها كمشاريع للمستقبل، مشاريعَ قد تنجح وقد تفشل، إلّا أنّها قطعًا لم تتبلور شعوبًا وأوطانًا. فإذا كانت الحريَّة الشرط الشارط الأوّل للسياسة، فالتشكّل الوطنىّ الشرط الشارط الثانى كونه، بين أمور أخرى، يرسم للحريَّة وجهتها النافعة ويمنع تحوّلها تضاربًا وتنازعًا أهليَّين.
ونقص الإعداد لوعى الحقيقة هذه هو ما تواطأت عليه مدارس فكريّة وسياسيّة مختلفة، بعضها متناحر فى ما بينه، لكنّها كلّها قدّمتنا فى زىّ كاذب ومزعوم. هكذا قالت لنا أيديولوجيّات الأنظمة التقليديّة، السابقة على الانقلاب العسكرىّ، إنّنا أوطان وشعوب وأعلام وأناشيد وطنيّة ومقاعد فى الأمم المتّحدة، ثمّ جاءت الأيديولوجيّات العسكريّة تعامل ذاك المعطى كأنّه بدهىّ وتقفز بنا إلى دعوات وحدويّة أعرض. ولم تشذّ النوى الليبراليّة والاشتراكيّة عن التعامل مع فرضيّة الأوطان - الشعوب كأنّها تحصيل حاصل، فكان كافيًا إسقاط طغمة مستبدّة (فى نظر الليبراليّين) أو جشعة (فى نظر الاشتراكيّين) لكى يظهر إلى السطح خير الوطن وفضائل الشعب.
لقد التقوا جميعًا عند نفى الانقسام وإحالته إمّا إلى الاستعمار، أو إلى نقص فى التعليم والإدراك، أو إلى غير ذلك، معتبرين التمعّن فى أسباب هذا الانقسام وأشكاله شيئًا يقارب الخيانة، أو أنّه، فى ألطف العبارات، استشراق. وكانت التتمّة المنطقيّة أن تطرح كلّ أيديولوجيّة نفسها محطّة خلاصيّة أخيرة يتوّج بها الشعب والوطن الناجزان نفسيهما. وهذا مع العلم أنّ تاريخ منطقتنا، منذ تعرّفها على الأيديولوجيّات الحديثة، لا يقول سوى إنّ تلك الأيديولوجيّات تعكس وتحدّث الانشطارات الأهليّة الأعمق، تاركةً لبعض الأفراد أن يترجموا أمزجتهم وأذواقهم من خلالها.
واليوم يتبدَّى أكثر من أىّ وقت سابق أنّه من دون أن تُبتّ مسألتا الحريَّة والدولة - الأمّة تبقى السياسة ألعابًا كلاميّة فى الوقت الضائع الذى يفصل بين أوقات الألعاب الدمويّة. فإذا صحّ هذا التقدير اقترن طلب الحريَّة بطلب التشكّل الوطنىّ انطلاقًا من حصيلة سالبة لم تعد تحتمل التجميل أو التزوير. وهذا، فى أغلب الظنّ، ما يخفّف الإحباط بالحريَّة حين ينتكس مسارها، وما يساعدها مستقبلًا على أن لا ينتكس مسارها المذكور.
نقلًا عن "الحياة اللندنية".
