رئيس التحرير
عصام كامل

دروس من "أمير الصحافة" (5)

يستكمل محمد التابعي حكاية رحلة المعاناة مع الملك الشاب "النصف أمي" فاروق، ويقول: "بعدها ارتديت سترة "اسموكن" ونزلت.. وجلست أمام مائدة صغيرة في القاعة الكبرى.. ولم يلبث أن حضر المرحوم محمود فخري باشا الذي كان صهرا للملك أحمد فؤاد.. وكان يومئذ يتولى منصب وزير مصر المفوض في فرنسا، وفي سويسرا. وحضر وجلس في مقعد بجانبي، وراح يحاول أن يهدئ من ثائرة غضبي لأنه عرف ما حدث.


وهنا قلت لمعاليه: صدقني يا معالي الباشا أنني أريد أن أغادر فورا الفندق، بل وبلدة سان موريتز لولا أنني مضطر لأن أنتظر هنا وصول الحقيبة الكبيرة الموجود فيها معظم ملابسي، والتي كنت عهدت إلى شركة "كوك" في القاهرة بشحنها إلى سان موريتز. ووقفت واعتذرت له، وصعدت إلى غرفتي، حيث طلبت أن يحضروا لي فيها طعام العشاء. وبعد قليل دخل علي عبد الفتاح عسل، الذي كان يومئذ قنصلا لمصر في مدينة جنيف.

ودخل يحاول هو الآخر، أن يهدئ من ثورة غضبي.. وقال بين ما قاله إن جلالة الملك لا يزال شابا حديث السن.. إلى آخره..

دروس من "أمير الصحافة" (4)

ومر يومان، وفي مساء اليوم الثالث.. وبينما كنت جالسا وحدي في أحد أركان القاعة الكبرى في فندق سوفريتا هاوس.. جاء ياور "فاروق" المرحوم القائمقام عمر فتحي بك، وسألني: لم لا أدخل قاعة الرقص، حيث كان "مولانا" وأمه نازلي وسيدات الحاشية يرقصون. واعتذرت عن عدم دخول القاعة، وقلت له: إنكم أسرة واحدة، وليس لغريب مثلي أن يقحم نفسه عليكم.. وصعدت إلى غرفتي.. وعاد عمر فتحي، وأبلغ فاروق ما قلته.

وفي مساء اليوم التالي.. وبينما كنت جالسا وحدي في الركن أقبل اليوزباشي أحمد الطاهر، وكان أحد ضباط الشرطة الذين أوفدتهم وزارة الداخلية لحراسة الملك فاروق.

أقبل يقول لي: إن مولانا يطلب منك أن تأتي معي، وتجلس مع الذين معه في قاعة الرقص، ولكنني رجوته أن يبلغ مولانا أنه لم يجدني.
وصعدت إلى غرفتي.. فقد كان تعالي فاروق وسوء معاملته لي لا يزال يحز في نفسي. وفي اليوم التالي.. تناولت الغداء حول مائدة صغيرة في قاعة الطعام وبعيدة عن كل الموائد التي كان يجلس حولها.

وخرجت بعد تناول الغداء إلى قاعة الجلوس، ووقفت أدخن سيجارة، ولم ألبث أن رأيت الملك فاروق قادما، وإلى يساره حسنين باشا، رحمه الله، وحاولت مغادرة القاعة.. ولكن حسنين أشار إلي بيده أن أتقدم.. ولم يكن هناك مفر لي، فتقدمت وسحبني حسنين من ذراعي، وتقدم بي إلى فاروق وهو يقول: يأذن لي مولانا أن أقدم له "........."، وابتسم فاروق وحياني ببشاشة، ومد يده يصافحني، وهو يقول: إيه "النزاكة" (يقصد "الكبر") دي كلها؟

وكان يقصد بكلمة "النزاكة" اعتذاري لعمر فتحي عن عدم دخولي قاعة الرقص لأنني "لا أريد أن أقحم نفسي عليهم وهم أشبه بأسرة واحدة".
ثم وضع فاروق يده على كتفي، وقال: "أنا مش عارف ليه مش قادر أنام كويس في البلد دي.. وكمان بتعب بسرعة إذا مشيت على قدمي ولو لبضع دقائق".

دروس من "أمير الصحافة" (2)

وقلت له: علشان يا مولانا سان موريتز ترتفع عن سطح البحر خمسة آلاف قدم، يعني حوالي 1700 متر.. ولكن مولانا راح يقدر ينام كويس ويمشي زي ما هو عاوز بعد خمسة أو ستة أيام، يعني بعد ما يتعود على هذا الارتفاع.

سألني: وهل سبق لك المجيء إلى هنا.. إلى سان موريتز؟! قلت: نعم.. في العام الماضي، ورأيي، إذا سمح مولانا بإبدائه، هو ألا يجهد مولانا نفسه في المشي أو الحركة، أو حتى في الكلام الكثير..".

هكذا نجح "أمير الصحافة" في إجبار الملك، الذي يعتلي أكبر منصب في مصر، وقتها، على الاعتذار له عن "الجليطة" والتعالي في حق الصحفي المرافق له في الرحلة إلى فرنسا.. بدون تجاوز أو خروج على اللياقة والكلمات الدبلوماسية، شديدة الأدب. وفي الوقت نفسه نلاحظ أنه تحمل، من حسابه الشخصي، كل تكاليف الرحلة، (من جيبه)، ولم يسافر على حساب "الخاصة الملكية" أو ميزانية القصر، ولهذا كان يتعامل بشجاعة، وهو مرفوع الرأس، ولم يستطع أحد، ولو كان الملك نفسه، إجباره على أن ينحني أو يطأطئ رأسه.

أيضا فقد سافر إلى "سان مورينز"، وعرف جوها، قبل أن يسافر إليها الملك، ولهذا استطاع أن ينصحه بشأن ارتفاع عن سطح البحر.
هكذا كان وضع الصحفي، وكرامة الصحفي، وشخصيته القوية، واعتداده بنفسه، في زمن الآباء المؤسسين للصحافة المصرية الشامخة.. وآمل أن يتعلم الصحفيون الناشئون والشبان من هذه الدروس القيمة.
الجريدة الرسمية