رئيس التحرير
عصام كامل

الملاك الذي وخزته الإبرة

قبل ألف ألف عام، كان المؤمنون بالرب حفنة من الناس لا يتجاوز عددهم عدد ثمرات البرتقال في شجرة فقيرة الطرح، إذ لم يكن وقتها قد اكتشفت الأرقام.
وفي مقابل ندرة المؤمنين، كان هناك جيش من غير المؤمنين، لا يعرف عددهم سوى الرب الذي لا يؤمنون به، لكنهم على كل حال كانوا صفوفا لا يمكن للعين أن تحصيها.


دخل المؤمنون المعركة، وهم لا يرجون النجاة، فقد كانوا يخوضونها دفاعا عما آمنوا به، فقاتلوا وقتل منهم ما نحسبه قليلا وما يحسبونه كثيرا، مقارنة بعددهم الضئيل، ومع ذلك نجحوا في تكبيد عدوهم –وعدو الرب– عددا كبيرا من مقاتليه.
جبر الخواطر.. قوة
اشتدت المعركة، والمؤمنون لا يتراجعون، بل يزحفون نحو «الموت» مصيرهم المحتوم كزحف الأسماك، التي جرفها الموج للشاطئ، نحو البحر حيث الحياة. وبينما كانت الحرب على أشدها، أرسل الرب ملاكا لمؤازرة المؤمنين، فأخذ هذا المخلوق النوراني يقاتل جنبا إلى جنب مع البشر ضد البشر.

للمرة الأولى منذ خلق هذا الملاك، قبل ملايين ملايين السنين، يختبر تلك المشاعر: القوة، الضعف، الحب، الكراهية، الحزن، الفرح، الهزيمة، النصر.. لكن تظل هذه التجارب ضئيلة الحجم إلى جوار منحة الرب المتمثلة في السماح له بالاختيار.. الإرادة.. الرغبة.. الاحتياج.. إذا ترك له خالقه حرية اتخاذ القرار، كأن يقتل هذا الآن أو بعد حين، أو حتى يتركه تماما.

انتهت المعركة، وانتصر المؤمنون، بينما فر من تبقى من غير المؤمنين إلى المجهول، وحينها جلس الملاك مبتسما رغم الإعياء الذي ألم به، حتى أنه لم يكن يعي معنى التعب.. الوهن..

في هذه اللحظة، شاء الرب أن يظهر الملاك للناظرين، كي يتمكن المؤمنون من رؤيته، فتعجبوا من صنيعة الخالق المتمثلة في صورة هذا المخلوق الذي لا يشبه مخلوقا سبق وأن رأوه، لكنهم لم يخافوه ولم يهابوا الموقف، فقلوبهم كانت مطمئنة للدرجة التي منحتهم السكينة في حضرة كائن عملاق يشع نورا.

في هذه الأثناء، أخذ الملاك يفكر في السبب الذي من أجله أنزله الخالق للأرض كي يقوم بهذه المهمة، ولماذا لم يمنح الخالق القوة الخارقة للمؤمنين كي ينتصروا بأنفسهم على أعدائهم!! وهنا أدرك مالا يمكن لغيره أن يدركه، فارتسمت علامات الرضا على وجهه، ممزوجة بابتسامة لم يعرفها من قبل.
صندوق الخالة حليمة
لملم المؤمنون من تبقى منهم وهموا بالعودة للديار، فاقتربوا من الملاك ليودعونه قبل أن يعود للسماء، غير أنه تبسم وأخبرهم أنه لن يعود، وأنه سيبقى على الأرض إلى أن يأذن لله الخالق بمغادرة الحياة، فاندهشوا وتساءلوا عما إذا كان ذلك ممكننا، فرد عليهم الملاك بأن الخالق منحه الحق في تقرير مصيره، بأن يعود إلى الجنة أو أن يبقى على الأرض.

«وهل يختار أحدهم الأرض بكل ما فيها من شقاء ويفضلها على الجنة بكل ما فيها من نعيم؟».. هكذا كان السؤال يقفز من أعينهم، فقال الملاك مستبقا: من في فمه السكر دائما لا يستطعمه. تبادل المؤمنون النظرات في ما بينهم، فكلام الملاك لم يكن مفهوما لهم، رغم أنه أصبح بشريا مثلهم، ففطن لما يدور في أذهانهم وتبسم.

رحل الملاك، تاركا المؤمنين خلفه، وسعى في الأرض كباقي البشر، يخطئ ويصيب، يحب ويكره، يفرح ويحزن، يخاف ويطمئن، يهلل إذا صاد أرنبا على الغذاء ويتألم إن وخزته إبرة.. لكنه كان دوما ممتنا للرب الذي منحه حق الاختيار.. حتى وإن كان «الجحيم» مصيرا محتملا في نهاية الرحلة.

الجريدة الرسمية