رئيس التحرير
عصام كامل

أحلام وكوابيس السجين مرسي

18 حجم الخط

كان الظلام يرخى بسدوله على الصحراء الموحشة في منطقة وادى النطرون، لم يكن هناك أي بصيص نور سوى بعض الأنوار المنبعثة من أبراج المراقبة في منطقة السجون- لم تكن هناك أي أصوات صادرة سوى نباح بعض كلاب الحراسة والكلاب الضالة في الصحراء.


كان معظم نزلاء السجن قد دخلوا إلى زنازينهم ومعظمهم خلد إلى النوم إلا سجين واحد كان لا يزال يتثاءب، إنه يشعر بوعكة وعسر هضم، لقد أسرف في تناول الطعام الذي أحضرته له زوجته أم أحمد معها في الزيارة اليوم، إنه يشعر به يكبس على أنفاسه. 
بدأت عينيه تتثاقل، إنه يسمع شخير وصفير زملائه في العنبر، أخذ سلطان النوم يتمكن منه ويسحبه إلى دوامات لا نهاية لها، إنه يرى وجوها وأشخاصا تتوالى عليه، ويسمع أصوات جلبة وضوضاء، وصوت طلقات رصاص، وسلاسل وجنازير وأبواب تفتح وأسوار تهدم، إنه الآن خارج الأسوار ومعه الإخوة زملاؤه في التنظيم وفي الزنزانة، وبجواره بعض الجثث لسجناء يعرفهم وجثثا أخرى لا يعرفها لبعض الجنود وأفراد الحراسة.

يظهر في المشهد بعض الملثمين يحملون أسلحة ثقيلة، لقد أعطاه أحدهم هاتفا شكله غريب يجري به مكالمة، إنه يحادث شخصا ما يصف له كيفية تحريرهم من السجن، هذا ليس أحد أبنائه وليست زوجته، إنه شخص غريب. اختفى المشهد من أمامه وأخذ يسمع الشخير والصفير، إنه صوت شخيره هو، إنه لا يزال نائما (أكلك تقيل قوي يا أم أحمد) همهم وهو نائم، أخذ يتقلب تسحبه دوامة النوم إلى مشاهد ووجوه أخرى، إنه الآن يتصدر المشهد مرتديا بدلة أنيقة، تحيط به وجوه مهيبة لأشخاص تعلو هامتهم مظاهر الإجلال والوقار متشحون بوشاحات خضراء، لا يدري هل هم الرسل والأنبياء؟ أيكون بين يدي الله ؟ أجاء وقت الحساب؟ كلها تساؤلات تدور بداخله، أعطاه أحدهم ورقة ليتلو ما بها.

أتاه صوته ثابتا وقويا بل ومتفاخرا- أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون وأن أحافظ على الوطن وسلامة أراضيه والله على ما أقول شهيد- سمع نفسه وهو يتلو هذا القسم المهيب، سأل نفسه ما هذا القسم؟ أنا سجين، ما هذا الوطن الذي أقسم أن أحافظ عليه ؟ أنا لا أعرف الأوطان ولا أبالي بها، لا أعرف سوى الجماعة والتنظيم ودولة الخلافة التي نسعى لتأسيسها، وعن أي دستور يتحدثون؟ دستوري هو تنظيمي وقانوني هو بيعتي لإمامنا ومرشدنا، ماذا لو حنثت بهذا القسم؟ ولكن جاءه المخرج والفرج عندما سمع صوت شخيره هو وزملاؤه.

أخذ يتقلب في نومته، ويسمع صوت الحشود والجماهير تحييه وتهتف باسمه، إنهم يرفعون صوري، وما هؤلاء الحراس لماذا يحيطونني هكذا ؟ لست خائفا، يبدو أنهم يحبونني، سأفتح لهم صدري وأخطب فيهم، إنني أحب الخطابة، وأجيدها وأجد نفسي فيها، لن ألتزم بأي أوراق، سأرتجل، إنني أعشق الارتجال، ولكن لماذا تغير المشهد؟ هؤلاء هم أنصاري فقط أين الباقون؟ فقط بوابة القصر والحراس مشهد دماء على الطريق وأهلي وعشيرتي لا يهمني سوي الخطابة، سأهددهم وأتوعدهم بإصبعي، وأفرض عليهم قانون الطوارئ، وأذهب لأصلي الجمعات بل سأئمهم في الصلاة، ولكن لماذا يهرول حراسي من المساجد حفاة الأقدام ويحملون حذائي؟ انتظروا إنني أريد حذائي!.

من هؤلاء السيدات المتشحات بالسواد؟ لماذا يرفعن أيديهن للسماء وهن ينظرن لي والدموع متحجرة في أعينهن؟ إنني أحييهن وألوح لهن، يقلن "ارحل" لمن؟ لماذا يقفزن على سياراتي؟ ارتفع صوت النباح، واشتد الصفير والشخير في العنبر، وتوالت الصور والوجوه والمشاهد، وتوالت خطبي وزاد تجويدي فيها، إنهم معجبون بي، أنصاري وأهلي أحدثهم اليوم عن سوريا، ما هذه القاعة الصغيرة؟ لماذا قَلت الحشود وتغيرت السِحَن أين الباقون؟ ماذا سأقول عن سوريا؟ وأي مصيبة سأفعل؟ لا يهم، المهم أنني سأخطب ويجلجل صوتي في القاعة وأحصد الإعجاب والتصفيق.

تغير المشهد والقاعة، ولا زلت أخطب، في الصفوف الأولى يجلس أصدقائي في التنظيم والزنزانة، ما كل هذه القامات والرتب العسكرية؟ يجلس بينهم من أخشاه، هذا الفارس الذي يؤدي لي التحية العسكرية، أشعر بخوف منه ورهبة تجاهه، له هيبة تجعل مفاصلي ترتعد، ينظر لي نظرة ذات معنى، هذا نذير شؤم!.

سمعت صوت الآذان يؤذن ولا زال صوت شخيرهم في أذني مختلط بصوت حشود هادرة، حشود بالملايين تهتف ضدي تطالب بسقوطي ورحيلي. من أنتم حتى تسقطوني ؟ أين أنصاري وأهلي؟ سأخطب فيكم أيها الحشود لألجمكم، سأعطي إشارة البدء لتُسحقوا، سأكمل طريقي على جثثكم، هاهو فارسكم النبيل قد أتى ليفاوضني، لن أتنازل، ستحميني حراستي، فأنا في بيتهم وفي حمايتهم، ولكنهم ينتمون إليه وولاؤهم له، هو قائدهم ومرشدهم، وأنا لي مرشد آخر أنا لست منكم، إلى أين تأخذونني؟ ما هذا القفص الزجاجى ؟ من أنتم؟ لماذا لا تسمعون صوتى ؟أريد أن أخطب !.

أقول كلمة واحدة الشرعية الشرعية الشرعية الشرعية الشرع.. انتفض السجين على يد تهزه بعنف يا مرسي يا مرسي قوم العربية وصلت ..
هب من رقاده، وأخذ يتثاءب، ويتمطع، ويستنطع، وسأل حارسه هل وصلت عربية الرئاسة؟ هل الحرس جاهزون؟
أجابه الحارس ضاحكا: نعم وصلت عربية الترحيلات، اليوم يوم محاكمتك يا خفيف.
الجريدة الرسمية