المجددون.. ابن دقيق العيد، قاضي القضاة في مواجهة الطغيان
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّدُ لها دينها".
ولم يشترط السيوطي أن يكون "المجدِّدُ" فردًا، بل يشمل كل من نفع الأمة وجدد لها شيئًا من أمور دينها ودنياها في أي مجال من المجالات، وأيده في ذلك ابن الأثير الجزري وشمس الدين الذهبي، وابن كثير الدمشقي، وابن حجر العسقلاني.
ولا يلزم أن تجتمع خصال الخير كلها في شخص واحد، بل قد يكون هناك أكثر من عالِمٍ في أكثر من مكان، في وقتٍ واحدٍ، أو أزمانٍ متفرقة، يتميز كل منهم بمزية في علم من العلوم الدينة والدنيوية، شريطة أن يكونوا جميعا مسلمين، مؤمنين، ملتزمين بهدي الدين الحنيف.
وهذا موجود، ولله الحمد، حتى قيام الساعة، فهناك من يتفوق في اللغة، والفقه، والتفسير، وهناك من يمتاز في العلوم الحديثة، كالطب والهندسة والتكنولوجيا، وغيرها.. وهناك من يدفع عن الإسلام شبهات الملحدين، والمتطرفين والمفرطين، ويصد هجمات المبطلين، والمنحرفين، وأعداء الدين.
ابن دقيق العيد (625 هـ - 702 هـ)
قال عنه الإمام الشوكاني: "فاق الأقران، وخضع له أكابر الزمان، وطار صيتُه، واشتهر ذكره، وأخذ عنه الطلبة، وصنّف التصانيف الفائقة".
اتفق الذهبي وجلال الدين السيوطي على اعتباره أحد المجددين على رأس القرن السابع الهجري؛ بصفته أحد الفقهاء.
كما اعتبره المؤرخ الصلاح الصفدي أحد المجددين للإسلام في عصره، حيث قال: "وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها".
هو شيخ الإسلام تقي الدِين ابن دقيق العيد، أحد الفقهاء والعلماء والمحدثين البارزين الذين لمعوا في عصر المماليك في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.
وكان معاصرا للعلامة عز الدين بن عبدالسلام الذي كان من كبار العلماء الذين واجهوا السلطة الأيوبية في ذروة سطوتها في دمشق، ثم في القاهرة حين لجأ إليها.
ولادة في البحر
كانت ولادة محمد بن علي بن وهب القشيري المنفلوطي الصعيدي المصري، الشهير بابن دقيق العيد عجيبة، حيث ولد في سفينة شراعية في عرض البحر عندما كان والداه في طريقهما إلى الحجاز لأداء فريضة الحج في 25 من شعبان 625هـ = يوليو 1228م، فاستبشر الأب كثيرا، ولما قدم مكة حمله، وطاف بالوليد البيت الحرام، ودعا الله أن يجعله عالمًا عاملًا.
أبوه هو أبو الحسن علي بن وهب عالم جليل، مشهود له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول، وعُرف جده لأبيه بالعلم والتقى والورع، وكانت أمه من أصل كريم، فأبوها هو الإمام تقي الدين بن المفرج الذي كانت تشد إليه الرحال، ويقصده طلاب العلم.
ترجع شهرته باسم "ابن دقيق العيد" إلى أن جده خرج ذات يوم بطيلسان (كساء يلبسه الخواصّ) ناصع البياض، فأطلق عليه الناس كأنه "دقيق العيد"، فصار الاسم يطلق على الجد ثم الأب، فالحفيد.
نشأ في عائلة من أشراف مدينة قوص في الصعيد، الأمر الذي أتاح له فرصة سلوك طريق العلم وتحصيله، فحفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه المالكي على أبيه، ثم الفقه الشافعي وعلوم العربية.
ثم ارتحل إلى القاهرة واتصل بالعز بن عبد السلام، فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول، ولازمه حتى وفاته. ثم ارتحل إلى دمشق في سنة 660 هـ، وسمع من علمائها ثم عاد إلى مصر.
في قوص
استقر بمدينة قوص بعد رحلته في طلب الحديث، وتولى قضاءها على مذهب المالكية، وكان في السابعة والثلاثين من عمره، ولم يستمر في هذا المنصب كثيرًا، فتركه وتوجه نحو القاهرة قبل أن يبلغ الأربعين، وأقام بها تسبقه شهرته في التمكن من الفقه، والمعرفة الواسعة بالحديث وعلومه.
وفي القاهرة درس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية، ثم تولى مشيختها بعد ذلك.
ورغم تبحره في علوم الحديث فقد كان يتشدد في روايته، فلا يروي حديثًا إلا عن تحرٍّ واحتراز.
قالوا عنه
قال عنه المؤرخ الصلاح الصفدي، وهو قريب العصر منه: "كان إماما متفننا محدثا مجودا فقيها مدققا أصوليا أديبا شاعرا نحويا، ذكيا غواصا على المعاني، مجتهدا وافر العقل كثير السكينة بخيلا بالكلام، تام الورع شديد التدين، مديم السهر مكبا على المطالعة والجمع، قل أن ترى العيون مثله.. وكان سمحا جوادا".

وقال عنه أبو الفتح بن سيد الناس الحافظ: “لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعًا، وفي فنونها بارعًا، مقدمًا في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردًا بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيرًا بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزًا في العلوم النقلية والعقلية".
ويقول الأدفوي: ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه علم أنه أكثر تحقيقًا وأمتن وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن.
وقد وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه.
قاضي القضاة
تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي قضاة الشافعية في مصر في 18 جمادى الأولى 695هـ = مارس 1296م، في ولاية السلطان المنصور حسام الدين لاجين، وهو في أخريات عمره قبل وفاته بسبع سنين.
وكان منصب قاضي قضاة الشافعية يعتبر المنصب الأهم والأعلى بين القضاة كلهم، فقد أعطى لصاحب هذا المنصب في عصر المماليك سلطة تولي الإشراف وإدارة الكثير من الأوقاف والمدارس والخانقاوات التي أقيمت للصوفية.
في مواجهة الطغيان
كانت فترة توليه القضاء على قصرها من أكثر أعوام عمره أهمية وخطورة، فقد اصطدم بالسلطان وكبار رجال الدولة. وردَّ شهادة نائب السلطان الأمير سيف الدين منكُوتَمُر؛ لأنه اعتبرها شهادة غير عادلة وغير كافية!
كان منكوتمر قد أرسل إلى قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد يُبلغه مُدعيا أن تاجرا مات وترك أخا من غير وارث سواه، وأراد منه أن يُثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث، لكن الشيخ رفض إنفاذ القضية لصالح التاجر بناء على شهادة منكوتمر وحده.
وأصر القاضي على موقفه غير خائف من نائب السلطنة المملوكية، وفي المرة الأخيرة أرسل له أحد كبار الأمراء في الدولة لإعادة النظر في المسألة، وإزاء إصراره قام الأمير وهو يقول: والله هذا هو الإسلام.
وعاد إلى منكوتَمُر واعتذر إليه بأن هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء إلى دار العدل.
وما أن صعد ابن دقيق العيد إلى دار العدل في قلعة الجبل بالقاهرة في اليوم المخصص له، حتى أرسل نائب السلطان إليه بعض مماليكه ثم كبار أمرائه طالبا منه أن يمر عليه في دار النيابة، "فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحّوا عليه، قال لهم: قولوا له ما وجبت طاعتك عليّ، والتفتَ إلى من معه من القُضاة، وقال لهم: أُشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله، وقولوا له يُولّي غيري".
رجع الفقيه إلى داره، وأرسل نقباءه إلى نوّابه في القضاء في كامل القطر المصري بمنعهم من الحكم وعقد الأنكحة (الزيجات)، فلما بلغ السلطان لاجين الخبر، وأدرك خطورة الأزمة على سُلطانه ودولته، وخاف من حب الناس لابن دقيق العيد، فأرسل إلى نائبه الأمير منكوتمر يلومه على تهوره، ثم أرسل إلى القاضي بعض كبار الفقهاء والأمراء ليصعدوا به إلى القلعة، ليسترضيه.
وقال له السلطان: يا سيدي، هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادعُ له. فأخذ يقول: منكوتمر لا يجيء منه شيء (أي لا يرجى منه خير)، وكرّرها ثلاث مرات وقام".
أسرَّها نائب السلطنة سيف الدين منكوتمر في نفسه، وأخذ يتحين الفرص، ويتحرق للانتقام من الفقيه الذي أهانه، وهو صاحب الكلمة العليا في الدولة.
وذات يوم أرسل إلى القاضي ابن دقيق العيد يتهمه بأنه استولى على أموال بدون وجه حق من موارد إحدى المدراس التي كان يُشرف عليها، فأرسل إليه ابن دقيق العيد خطابا يرد فيه هذه التهم، بل وجعله "خطاب مباهلة وملاعنة" على الظالم من الطرفين، ولم تمر سوى أيام قليلة إلا وقُتل السلطان لاجين، وحُبس نائبه منكوتمر، ثم أخرج من سجنه وقُتل.
مواجهة مع ابن قلاوون
وبعد أن تولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون العرش، وواجهت الشام في عصره أزمة خطيرة بهجوم التتار انطلاقا من العراق التي قضوا على الخلافة العباسية فيها، كانت الجيوش المملوكية بحاجة ماسّة إلى الأموال، فأمر السلطان بجمع المال طوعا أو قسرا، معتمدا على فتوى قديمة للشيخ عز الدين بن عبد السلام في زمن السلطان قُطز، إلا أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد رفض معتبرا ذلك تجرؤًا على الفتيا، واقتطاعا لسياقها، قائلا للسلطان في قوة: "إن ابن عبد السلام لم يُفتِ في ذلك إلا بعد أن أحضرَ جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، وجمع ما عند الأمراء من جواهر وأحجار كريمة تزدان بها نساؤهم وجواريهم، ثم قال له: كيف يحلّ مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرّض لدرهم واحد من الناس إلا بوجه شرعي".
فما كان من السلطان إلا أن انصاع لأمر الشيخ ابن دقيق العيد.
أيضا، وقعت أزمة بين الشيخ والوزير الرجل الأول على رأس الجهاز الإداري المملوكي في ذلك العصر وكان يُسمى شمس الدين بن السلعوس، فقد كان الوزير ابن السلعوس على علاقة مضطربة مع قاضي القضاة السابق تاج الدين بن بنت الأعز. وأراد ابن السلعوس بعد عزله أن ينتقم منه فلم يجد مدخلا إلا باتهام ابن بنت الأعز زورا بأن بعض مؤلفاته وكلامه يدل على كفره وخروجه من الملة، وكتب في سبيل ذلك محضرا أرغم فيه بعض الفقهاء على التوقيع عليه بالموافقة وصحة الاتهامات، ولم يتبقَ إلا توقيع العلامة ابن دقيق العيد، وهو قاضي القضاة كي يُنفذ حكم الإعدام في الشيخ ابن بنت الأعز!
وأرسل الوزير هذه المحاضر وحيثياتها الملفّقة إلى ابن دقيق العيد في القاهرة، واستعجله بالتوقيع، حيث قيل له: يا مولانا القاضي الساعة تضع خطك (توقيعك) على هذه المحاضر.
فأخذها، وشرع يتأملها واحدا واحدا، والنقباء من القلعة يتواترون بالحثّ والطلب والإزعاج، ويُريدون منه التوقيع لتنفيذ المؤامرة، ويقولون له: "إن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ من محضر دفعه إلى الآخر، وقال: ما أكتبُ فيها شيئا. قال الشيخ فتح الدين (أحد الفقهاء الحاضرين): يا سيدي القاضي لأجل السلطان والوزير.
فقال ابن دقيق العيد: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم. قال: فقلتُ: فكيف تكتبُ خطك بذلك، وبما يخلص فيه، وتقول: إنك لا تحلّ دمه. فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان، ويقولون: قد كتب فلان، ولا يُخبرونه الحقيقة بأني كتبت بما يُخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله. كان من الذكاء بحيث أجهض مؤامرتهم.
مؤلفاته
لابن دقيق مؤلفات فقهية تعد من درر المكتبة العربية، منها “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” للعلامة الحافظ عبد الغني النابلسي.
وله أيضا "شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه"، و"شرح مختصر الزبيدي في فقه الشافعية"، و"شرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية"، لكن مع الأسف فإن هذه الكتب فُقدت.
ويعد كتاب "الإلمام الجامع لأحاديث الأحكام"، في عشرين مجلدًا، من أعظم ما صُنف في مجاله.
كما وضع في علوم الحديث كتاب "الاقتراح في معرفة الاصطلاح".
وله كتب أخرى في مجالات متعددة، منها: اقتناص السوانح، وشرح الأربعين النووية.
وله تصانيف في أصول الدين، وجملة من الفتاوى والمباحثات الفقهية والأصولية، أورد السبكي في طبقات الشافعية نماذج منها، وقد صدَّرها بقوله: فوائد الشيخ تقي الدين ومباحثه أكثر من أن تُحصى، ولكنها غالبًا متعلقة بالعلم من حيث هو؛ حديثًا وأصولًا وقواعد كلية.
الإمام المجدد
اتفق العلماء المعاصرون لابن دقيق العيد على أنه مجدد المائة السابعة، والإمام المقدَّم بالعلم والفتوى والزهد والقضاء، وحينما توفي قاضي القضاة في مصر، وهو التقيّ عبد الرحمن ابن بنت الأعز، أشار أحد المقربين إلى السلطان، قائلًا: ألا أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم؟
قال له: نعم. قال: عليك بابن دقيق العيد.
وفاته
توفي يوم الجمعة 11 صفر سنة 702 هـ، ودفن يوم السبت بسفح المقطم، وكان يومًا مشهودًا وصلي عليه بسوق الخيل بالقاهرة، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء وجمع غفير من الأمة.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
