رئيس التحرير
عصام كامل

اللغز الروسي المحير!

أغرب من الصباح الروسي، أمس، كان ختام اليوم، ومساء وليلا، الذي حبس العالم فيه انفاسه يتابع ما يمكن وصفه بالصدمة العاتية، إذ اقتربت قوات المرتزقة من العاصمة موسكو، في رتل من خمسة آلاف مقاتل ومن 150 إلى 600 مركبة مدرعة، تمهيدا وتهديدا باقتحامها!


يبدو الكلام غريبا ولا يتقبله العقل، ولا الواقع، ولا المشهد الروسي برمته. إن هذه القوات أمضت شهورا ومعها الجيش الروسي، تحاول الاستيلاء علي باخموت الأوكرانية، وخسرت أعدادا ضخمة من قواتها وقوات الجيش النظامي الروسي.

Advertisements


بالطبع بدأ اليوم غريبا ببيان من رئيس روسيا فلاديمير بوتين، قال فيه إن قوات فاجنر طعنت الأمة الروسية فى ظهرها وأعلنت العصيان المسلح، واستولت علي مقر القيادة الروسية المتقدم في مقاطعة روستوف، حيث تدار العمليات تقليديا منها داخل الأراضي الأوكرانية.. 

 

ووصف بوتين ما فعله يفيجيني بريجوجين، دون أن يذكر اسمه بالخيانة، وأنه سيدافع عن روسيا وسيعاقب الخونة عقابا صارما. 

نهاية اليوم العجيب المريب، لا كان هناك عقاب صارم، ولا ملاحقة قضائية لقوات فاجنر وقائدها وأفرادها! بل سماح وخروج آمن.

صمت مريب


لم تطلق رصاصة واحدة بين الجانبين، والاستثناء الوحيد كان إسقاط فاجنر لمروحية شحن حملت ثمانية أشخاص، وحتى الخمسة آلاف مقاتل مرتزق بمركباتهم قطعوا 900 كيلو مترا من روستوف وبقيت مائتا كيلو مترا فقط حتي يدخلوا موسكو. الأخيرة تمترست وتخندقت ونزلت نخبة الشيشان تحمي!


أين الطائرات الروسية، وأين الصواريخ الروسية، وأين المدافع الروسية، وأين المظلات الروسية، وأين الدبابات الروسية ؟ صمت مريب استدعي كل علامات الذهول، حتى علي المستوى الدولى، فقد راقبت العواصم الغربية المشهد في صمت، بل ألزمت واشنطن سفاراتها في كل العالم بالسكوت.

 

الوحيد الذي تابع بفرحة صبيانية، وتصريحات ساذجة، كان الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فقد تحدث عن فوضي وقعت، ولم تكن وقعت، وعن انهيار القوات الروسية، في وقت أطلقت فيه روسيا 40  كييف، لم تطلق واحدا منها علي المنقلبين عليها، واعتبر الانهيار والتمرد داخل القوات الروسية فرصة كبيرة لبلاده.. 

 

وقطع رئيس الأركان الأمريكي ميلر زيارته إلى إسرائيل وعاد ليتابع تطورات المشهد العجائبي، مع نظرائه في الغرب، وبالطبع كانت زيارته للتنسيق والتشاور مع تل أبيب وخططها لضرب إيران، مع ظهور بوادر اتفاق لإحياء المباحثات النووية مع طهران.


بالفعل لا القوات الروسية ضربت قذيفة واحدة، ولا اعترضت الرتل المتمرد المتقدم إلى موسكو، ولا قوات فاجنر أطلقت رصاصة واحدة، حتى أنها استولت علي مقر الجيش الروسي في روستوف بسلاسة.

لغز محير


لماذا لم يضرب بوتين الفصيل المرتزق المسلح المتمرد؟ لماذا قبل قائد فاجنر وساطة لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا، وهو صديق مشترك لبوتين وللمتمرد ذاته؟


بوتين برر قبوله الاتفاق الذي أبرمه لوكاشينكو مع قائد فاجنر بأنه حقن للدماء الروسية. وقائد فاجنر استخدم نفس التعبير، حقنا للدماء الروسية أمرت قواتي وهي علي مسافة مائتى كيلو متر من موسكو بالعودة إلى معسكراتها، بل وافق على الخروج الآمن إلى بيلاروسيا ومن معه ممن قاتلوا وتمردوا، وبضمان شخصي من بوتين..

 

 فضلا عن عدم الملاحقة القضائية لمن تمرد وبقي، تقديرا لخدماتهم السابقة في المعارك ضد أوكرانيا، أما من لم يشارك، فستبرم معهم وزارة الدفاع الروسية عقود عمل، ضمن صفوفها وتحت ولايتها.
 

مؤدي الاتفاق أن فاجنر تفككت داخل روسيا، وأن بوتين في تقديره، تجنب حرب أهلية، وتفرغ للعملية العسكرية الخاصة، ولعل استمرار قصفه لأوكرانيا، مع الأحداث الغريبة الجارية في بلاده، تاكيد لرؤيته، بأن العدو الرئيسي أحق بالقذائف من صديق متمرد، سرعان ما تراجع!


كل المبررات المعلنة للتراجع، لا يقبلها العقل بسهولة، وكل مبررات الصبر والصمت والتريث الرئاسى الروسي، مناقضة للعقل بكل المقاييس. فيم كانت العملية إذن؟


هل انتقام شخصي من وزير الدفاع الروسي شويحو، إذ الكراهية متناهية الكمال بين الرجلين، وما أكثر ما تذمرت فاجنر لبخل شويحو في إمداد هم بالذخيرة.. شويحو والمخابرات الأمريكية كانوا يدركون أن فاجنر تدخر أسلحة وذخائر ومعدات.. لعمل ما..  وتم العمل ولم يتم.. بل انفض.. وتسألنى كيف ولماذا؟

 


الرد عجز عنه كل المحلللين العسكريين في العالم أمس واليوم.. ننتظر ربما تتكشف الأوراق واحدة بعد الأخرى، لعلنا نفهم اللغز المحير ونجد إجابة شافية مقنعة علي السؤال: لماذا تراجع الرجلان، الرئيس والمتمرد؟

الجريدة الرسمية