رئيس التحرير
عصام كامل

ستة أحلام في حقيبة من القماش

قبل سنوات، قابلت عرافا نصف طيب، باعني جملتين مقابل نصف عمري، الأولى تقول: ذكريات الطفولة هي المرسى الآمن دوما لسفينة العمر حين تحاصرها عواصف الزمن. أما الثانية فتقول: الغرباء الذين نقابلهم في مناماتنا هم الصورة التي حلمنا أن يكون عليها من أحببناهم في الواقع.. حملت الجملتين في حقيبة من القماش، كانت أمي قد حاكتها لي قبل التحاقي بالمدرسة الابتدائية، ومضيت إلى حال سبيلي، إلى أن غلبني النعاس، فنمت في ظل شجرة ورأيت ستة أحلام لا أتذكر منها إلا كلمات.

الحلم الأول

لأننا غرباء عن هذا العالم، صنع كل منا عالمه الخاص: ناس وبنايات وشوارع وأحداث، وحتى ذكريات لم تحدث.. كلها أشياء ليست موجودة فعليًا ومع ذلك هي أصدق ما مر بنا.. لهذا كله لا يمكنني تكذيب أحدهم حين يقسم أنه يربي في حديقة منزله ديناصورا أو أنه بالأمس تناول العشاء مع الأميرة ديانا.. هي الحقيقة التي صنعها وعليّ أن أتقبلها أو أخرج من عالمه حتى لا أكون أنا الكذبة الوحيدة في حكايته.

الحلم الثاني

لدي ذكريات كثيرة عشتها وحدي لكنني في كل مرة كنت أشعر بيد تربت على كتفي فتتحول وحدتي إلى ونس مدهش.. ليس لدي أي تفسير لهذا الأمر إلا أن تكون هذه يدك أنت.. لم نلتقي بعد لكن ربما روحينا التقيتا فقررتا ألا تمر الذكريات دون أن نتشاركها.. أتوق ليوم نسترجع فيه ذكرياتنا فننتشي بأثر رجعي.

الحلم الثالث

كان بودي أن أكتب عن صديقتي التي تجلس إلى جواري تحت شجرة الكرز أمام بيتي لنستعيد ذكريات الطفولة، غير أنه لا صديقة لي ولا بيت ولا شجرة كرز.. حتى ذكريات الطفولة نسيتها أو ربما لم تكن هناك ذكريات.

الحلم الرابع

تخونني ذاكرتي في كل شيء لكنها أبدا لا تخطئ ابتسامة أو نظرة أو صوت. أتذكر حتى ابتسامات العابرين في الشوارع، تلك ابتسامة تشبه طفل يوزع الحلوى مجانا. أتذكر نظرات المتلهفين على أرصفة الوصول بمحطة القطار.. الأشواق في عيونهم طيور تسبقهم إلى حيث يجلس المسافر يتأمل العشب على جانبي الطريق من النافذة. أتذكر أصوات المكلومين، لحنا حزينا شجيا، وكأسا من خمر لا يسكر. هي أشياء لا تنسى.. هي بصمات غير قابلة للتزييف.

الحلم الخامس

أنا على حافة الجنون، هذا البرزخ الفاصل بين الوعي واللاوعي، اتحدث بما تبق لي من عقل قبل اللولوج طواعية للاشئ، وها أنا أمنحكم تصريحا بأن تتبرأوا مني، وأثبت أمام أعينكم تحذيرا بأن البقاء في دائرتي مخاطرة حتما ستنتهي بما لا تطيقونه، فانفروا ولا تتعاطفوا، واغسلوا أيديكم بضحكات الصبر عل الله يغفر لي..

الحلم السادس

لا يشعر بنار المكلومين إلا من انكوى بها. حين نظرت إلى الصورة التي تجمع زوجها السابق وأقرب صديقاتها إلى قلبها، انقبض فؤادها كطفل تصرعه عجلات سيارة تمشي على مهل، فانسابت دموعها تشق أنهارا من عينيا إلى صدرها.. في الصورة يبدو كل شيء مثاليا، حبيبها يقف مبتسما في جو لا تنقصه الحميمية، أما الخطأ الوحيد في الصورة أنها لم تر نفسها في الصورة، فلكي تكون اللقطة طبيعية ومنطقية لم يكن ينقصها إلا أن تكون هي من تقف إلى جواره في هكذا لحظة.

 

ترى، هل غضبت لأنها ليست في الصورة، أم لأن حبيبها يحتضن بعينيه غيرها، أم لأن تلك التي سرقت مكانها في الصورة هي نفسها من كانت يوما صديقة مقربة؟! الحقيقة أننا نموت كمدا حين نرى صورتنا وقد أُخفينا منها عمدا وحل مكاننا بالتزييف شخص آخر.. وما يزيد الوجع أن ذلك الذي حل مكاننا هو أقرب الناس إلينا!!

مثل هؤلاء لصوص، غير أن سرقاتهم أشد خسة من سرقة مال أو ذهب.. هم يسرقون حياتنا، أحبابنا، تاريخنا الذي كتبناه بالدم والدموع.. تاريخ مفعم بالذكريات، حلوها ومرها.. تاريخ موشوم بنبض القلوب ورجفة البدن.. أسرقوا أحبابنا وحياتنا.. لكن أتركوا لنا ذكرياتنا نقية بدون تشويه، فهي الزاد الذي يبقينا على قيد المحبة.

الجريدة الرسمية